تهمة تبدو بديهية تلازم العهد الجديد. لكنها تقترن بالعودة إلى الجذور الفينيقية، والتباهي بلبنان منطقة جغرافية على تقاطع بين الأمم. مفهوم الترانزيت و"الكوميسيون" متجذّر في الطبائع اللبنانية، ويتكرّس في هذه المواءمة الجديدة التي أفرزتها آخر تسوية سياسية جرت بين الأفرقاء. لا يمكن مناقشة إستحقاق ما، ولا يكمن خلاف بين طرفين أو أكثر، إلا على ما هو تحاصصي، وحول النسب. من قانون الانتخاب إلى التعيين في الإدارات، إلى التوظيف في الدوائر. وهذا طبعاً لا ينفصل عن الصفقات والمؤسسات التجارية أو الإستثمارية التعاضدية بين الأفرقاء على اختلافهم، في النفط، الكهرباء وغيرها.
مادة جديدة تدخل بقوّة على الحلبة، فيظهر التساجل والإختلاف حول قضية اللاجئين السوريين، في أبهى الحلل اللبنانية. في الحكومات السابقة، كان التيار الوطني الحرّ يرفع لواء الهجوم على اللاجئين، من بابين أساسيين، أولاً لناحية وجودهم واستثمار ذلك في تسعير النزعة الطائفية والمذهبية لشد العصب، وثانياً عبر التشديد على حجم الخسائر التي يتكبدها لبنان بفعل النزوح، مع إغفال متعمّد لحجم الضخ المالي الذي دخل لبنان من جهات دولية مانحة والأمم المتحدة، وحتى من خلال اللاجئين الذين يسهمون في تعزيز الدورة الإقتصادية اللبنانية.
لا شك في أن للجوء تداعيات سلبية، وإنما ليست بالأشكال التي يجري التداول بها. عشرات المؤتمرات التي حصل فيها لبنان على منح مالية تحت عنوان تحسين الظروف المعيشية للاجئين من مختلف النواحي، لكن الشعار اللبناني الذي رفع رفضاً للتوطين، كان مجرّد ذريعة لعدم إيصال هذه الأموال إلى أصحابها. بالتالي، أوضاع اللاجئين زادت سوءاً، فيما الأموال وجدت مخارج أخرى لصرفها والحصول عليها. والمواقف تتكرّر عبر رفع السقف، فبعد الإختلاف بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ في شأن اللاجئين في الحكومات السابقة، ثمة تكامل في التصريحات في الحكومة الجديدة، فيما الخلاف يتعدى ذلك، ليصل إلى كيفية الحصول على "الأموال" وكيفية صرفها.
هذا الجانب يعتبره اللبناني جزءاً من تراثه وبنيته الاجتماعية، ويصرّ على المحافظة عليه. يطلق على هذا النوع من "الاحتيال" عبارة "شطارة"، واللبناني المضياف والشهير بمأكولاته الشهية، "يسحبها من فم السبع". هو يلطّف الواقع، ولا يطلق عليه صفته الحقيقية بأنه شكل من أشكال التسوّل، أو حتّى التذلل، لأن وضعية اللبناني لا تسمح بتسمية الأشياء بأسمائها. وهذا ما يبدو مشهوداً بالنسبة إلى أي سائح يزور لبنان، وبمجرد معرفته أنه أجنبي، تبدأ عملية التملّق، من سائق سيارة الأجرة، إلى أي نادل في أي مطعم. وللأسف، فإن هذا النموذج المعمم، أصبح واسعاً إلى درجة بلوغ الممثلين الرسميين للجمهورية اللبنانية، وخصوصاً في آلية مقارباتهم وتعاطيهم مع ملف اللاجئين، هم ينطلقون من فكرة، أن لبنان البلد الصغير والجميل، يفرض على الجميع أن يساهموا في إنعاشه مالياً وإقتصادياً، للتنعّم بجوّه الهادئ واللطيف. وهذه الدورة تتعرقل حالياً بفعل وجود اللاجئين الذين يؤثرون سلباً على البنى التحتية. بالتالي، يسهمون في تردي تقديم الخدمات للبنانيين والزوار أيضاً، سواء في الكهرباء أم في التلوث.
في هذا السياق، تأتي التصريحات التصعيدية، سواء لرئيس الحكومة سعد الحريري أم لوزير الخارجية جبران باسيل، عن اللاجئين السوريين. التوافق على المبدأ واضح ومتكامل، فيما الإختلاف يبقى على آلية المقاربة. وهذا ما تجلّى في موقفين متناقضين لكل من الحريري وباسيل قبل ساعات من مؤتمر بروكسل لدعم المجتمعات المضيفة للاجئين السوررين. حذّر الحريري من إنفجار الأوضاع في لبنان اجتماعياً وأمنياً، إذا لم تؤمَّن روافد مالية لمعالجة أوضاع اللاجئين، ولأن لبنان لم يعد يحتمل وجودهم. وسيطالب الحريري في كلمته أمام المؤتمر بمزيد من الدعم لمواجهة التحديات. وسيؤكد أن عودة اللاجئين يجب أن تكون خلال الفترة الإنتقالية في سوريا، على أن يحصلوا على ضمانات من الأمم المتحدة تحميهم.
هنا يبرز موقف مخالف لوزير الخارجية عبر توجيهه رسالة إلى الدول المعنية، بأن عودة اللاجئين يجب أن تحصل فوراً إلى المناطق الآمنة في سوريا، بالإضافة إلى وجوب تقديم الدعم إلى لبنان. الأمر الذي أثار استهجاناً من تلك الدول، ورفضاً لمضمون رسالة باسيل، إذ أكد المعنيون التزامهم بما سيأتي برسالة رئيس الحكومة.
منذ بداية الأزمة السورية، حصل لبنان على ما يفوق خمسة مليارات دولار "على ضهر اللاجئين"، أي ما يعادل نصف حجم موازنة الدولة اللبنانية. فيما لم يخظَ السوريون بأي اهتمام، ولم يحصلوا على المبالغ التي خصصت لهم لتحسين ظروفهم المعيشية. عليه، فإن المؤتمر الجديد سيكون فرصة للبنان للمطالبة بمزيد، والعودة إلى إحياء حفلة تسوّل جديدة، لا بأس، الخزانة فارغة، وليس من سبيل لتعويمها بغير التسوّل باسم اللاجئين. هي ليست التجربة اللبنانية الأولى من هذا النوع. قبل اللاجئين السوريين، كانت قضية اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصاً إبان النكبة عام 1948، حينها فتحت "الطغمة" اللبنانية أبوابها وصدورها لرؤوس الأموال الفلسطينية، هذه التي أسهمت في شكل كبير ببناء المنظومة الإقتصادية والمصرفية اللبنانية بعد الإستقلال، فيما اللاجئون الذين خرجوا عراة، لم يجدوا من يتحنّن عليهم بقماشة شادر لجعله خيمة تقيهم الشمس والمطر.
تذهب الفظاعة اللبنانية أبعد من ذلك. فآخر بدع تمويل الموازنة العامة فرض ضريبة ألف ليرة شهرياً على كل شخص أجنبي موجود على الأراضي اللبنانية. المسألة تتعدى ذلك، وتشكّل عامل ضغط على المجتمع الدولي، لإجباره على رفد الأموال، للسماح للسوريين بدخول الأراضي اللبنانية. المسألة هنا تتخطى ما هو مذهبي أو طائفي أو حتى سياسي، لتنحصر في جانب واحد من جوانب الصراع، والذي يتجّلى طبقياً، وبشكل أوضح، فإن لبنان يسمح لمن لديه رأس مال بالدخول إلى أراضيه، فيما يمنع على الفقير ذلك. وليس ما يدّل على هذه الفظاظة، أكثر من غلبة الطبائع اللبنانية على "القوميات" الأخرى، الأمر الذي لا يردع مثلاً، شخصاً أرمنياً حصل على الجنسية اللبنانية قبل نحو قرن من الزمن، أن ينسى أنه كان لاجئاً. يتناسى ذلك، ويخرج مطالباً بإخراج اللاجئين. والأكثر بؤساً من ذلك، أن فصول مسرحية "عصر الجنون" اللبنانية مستمرّة، في ملحقات وملحقات.