الحياة في لبنان مسيرة على الحافة ولا أحد مرتاحاً فيها إلى وضعه ولا حتى "حزب الله"، فما أن يطمئن إلى انضواء القوى السياسية من كل الطوائف تحت سقفه، منذ تأييد غالبيتها ترشيح حليفه الرئيس ميشال عون وانتخابه وتأليف الحكومة، حتى يظهر من يخرق هذا السقف. قبل ذلك اكتشف النظام السوري مرتين أن لبنان عصيّ على التطويع الطويل الأمد بفعل تركيبته والحريات المتجذرة فيه.
المرة الأولى كانت بعد انتشار "قوات الردع العربية" في كل لبنان وتحولها قوات سورية صرفة تصدت لها "الجبهة اللبنانية" وقواتها بقيادة بشير الجميّل بعد قبول، والثانية بعد إنهاء الحرب في 1990 وتلزيم تطبيق اتفاق عربياً ودولياً إلى نظام الأسد. أي كلام في تلك الحقبة على ضرورة خروج الجيش السوري من لبنان على غرار ما فعل البطريرك السابق نصرالله صفير في ندائه الشهير (20 أيلول 2000) كان مرفوضاً، ممنوعاً ويُعتبر مساً بالمقدسات. الوضع نفسه ينطبق اليوم على عبارة "رفض السلاح غير الشرعي"، على ما بدا من ردود الفعل على مذكرة "الرؤساء الخمسة" إلى القمة العربية في الأردن.
والحال أن الحكم الحالي قام على "قراءة واقعية" أجرتها قوى، مثل "القوات اللبنانية" و"المستقبل"، لطالما عاندت ورفضت تجاوز قضية سلاح "حزب الله" والقبول بمرشحه الأوحد للرئاسة آنذاك، على أساس أن هذا السلاح إقليمي والمواقف المحلية منه لا تقدم ولا تؤخر، والوضع الاقتصادي والمالي والمؤسساتي في لبنان وصل إلى مرحلة من الحساسية يستحيل الاستمرار في تجاهلها. انخرط الجميع في هذه القراءة الجديدة، عدا حزب الكتائب اللبنانية وبعض الشخصيات غير المؤثرة. وكان للرئيس سعد الحريري دور أساس في تمرير هذه القراءة المختلفة للوضع في المملكة العربية السعودية التي انفتحت على الحكم اللبناني الجديد وأرسلت إليه وزيراً من العائلة الحاكمة، أمير مكة خالد الفيصل، للتهنئة بانتخابه واستقبلت الرئيس عون متجاوزة مرحلة الغيوم السود في العلاقة بلبنان بعد موقف وزير الخارجية جبران باسيل في مؤتمر وزراء الخارجية العرب إثر حرق السفارة والقنصلية السعودية في إيران، لكن موقف الرئيس عون التلفزيوني الذي غطى سلاح "حزب الله" شرعياً أعاد العلاقات إلى الوراء وبدت متجهة إلى الأسوأ، مما دفع الرؤساء الخمسة إلى المبادرة ومحاولة الإقلال من الأضرار المحتملة على لبنان. ولا شك في أن نجاح الاتصالات اللبنانية مع الأردن منظم القمة في الفصل بين "المقاومة" والإرهاب في البند المتعلق بلبنان من البيان الختامي كان هدية قيّمة إلى "حزب الله" . فمقررات القمة وصفت الحزب المذكور بأنه "إرهابي" في اليمن ومصر والبحرين، ولكن ليس في لبنان.
ويقول سياسي بارز لـ"النهار"، شاء عدم ذكر اسمه، أن لا أحد حتى اليوم يعرف لماذا أقفلت المملكة السعودية نحو 6 أشهر في وجه الرئيس الحريري، وعلى أي أساس فتحت قبل انتهاء قمة الأردن ذهاباً بالطائرة الملكية إلى الرياض وعودة بها إلى بيروت، وما هي الترجمة العملية لهذا التكريم.
ولا يستغرب الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان ردود الفعل التي أثارتها المذكرة إلى القمة بقدر أسلوب التعبير عنها. في لقاء جمع عدداً من الصحافيين في منزله في اليرزة، السبت الماضي، استذكر لغة التنصل الغريبة من "إعلان بعبدا" (11/6/2011)، قالوا "اغلوه واشربوا ميّتو" وما شابه بعد أيام من إقراره بموافقة الجميع عليه ومن ضمنهم "حزب الله". تفسيره أن تغيير الموقف جاء بفعل تغيّر الظروف. كان ثمة اعتقاد بمشاركة واسعة للبنانيين متطرفين سُنّة في المعارك ضد النظام السوري وعمليات تهريب أسلحة وتدريبات ضخمة تجري على الأراضي اللبنانية، وتبيّن عدم صحته. والرئيس نبيه بري حرص في جلسة الحوار تلك على قراءة الفقرة المتعلقة بضبط الحدود مرتين للتأكد من عدم اعتراض "حزب الله" (العبارة التي لا يرتاح إليها الحزب في الإعلان هي هذه : "الحرص على ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانيّة السوريّة وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان وباستعمال لبنان مقرّاً أو ممراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين").
لم يعترض الحزب بل وافق. ما تغيّر ايضاً أن تدخله في الحرب السورية كان مقتصراً حتى ذلك الوقت على مدينة القصير بذريعة وجود لبنانيين فيها وحولها وموقعها الاستراتيجي بالنسبة إلى إمدادات الحزب بالذخيرة والسلاح، فضلاً عن حماية بعض المقامات الشيعية المقدسة في سوريا. القرار بالتدخل الواسع جاء لاحقاً ومعه التنصل من "إعلان بعبدا" الذي صار فجأة "سيئ الذكر" بالنسبة إلى الحزب، فأوعز باستبداله بعبارة "مقررات الحوار الوطني" وهي فضفاضة لم تنفذ. لعلّ أبرزها إزالة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات (قوسايا والناعمة خصوصاً )، وترسيم الحدود مع سوريا لتوضيح هوية مزارع شبعا، لبنانية أو سورية. ولم يبذل "حزب الله" أي جهد لدى النظام السوري والتنظيمات الدائرة في فلكه لتطبيق هذه المقررات.
إلى ماذا أدت المذكرة ؟ يكفي أن الجميع ما زالوا يتحدثون عنها لتكون أعطت مفعولها. يجب أن يظل أحد يقول هذا الكلام، كما فعل البطريرك صفير.