في لبنان شيعة غير موالين لـ «حزب الله»، ويسميهم الأخير تعسفًا وجورًا «شيعة
السفارة»، في إشارة إلى علاقة مزعومة ربطتهم بالسفارة الأميركية في بيروت. والجماعة
هذه ليست «جماعة» بالمعنى الأهلي للعبارة في لبنان. أشخاص متفرقون يجمعهم
القليل، ومنه خصومة «حزب الله»، وخروجهم أو انشقاقهم عن وجدان الطائفة ومتنها.
الانشقاق على كل حال فعل حميد، خصوصًا إذا ما تم الإقدام عليه لأسباب نبيلة. وأحيانًا،
وخصوصًا في الحالة اللبنانية، هو فعل حميد حتى لو لم تكن وراءه أسباب، ذاك أن المنشق
عن طائفته أوسع صدرًا وخيا ًلا من ذاك المندمج فيها والمتماهي معها، ومن المؤكد أن
المقدم عليه أكثر خفة ورشاقة من بقية مواطنيه الذين يُ شبهون طوائفهم.
وهنا لا بد من «لكن» كبيرة، فشرط الخفة أن يبقى المنشق منشقًا وأن لا يلتحق بجماعة
أخرى، أو أن لا يبحث عن كائن جماعي آخر يندمج فيه، فهنا تبدو سقطته سقطتين، ذاك أنه
لن يتمكن من أن يصير جزءًا طبيعيًا من الطائفة أو الجماعة التي يسعى إلى الالتحاق بها،
كما أنه سيفقد نزاهة الانشقاق الحميد عن الطائفة وسيتحول إلى ملتحق مفتعل بطائفة
أخرى.
أين هم الشيعة المنشقون من هذه المعادلة؟ وهل تمكنوا من الاستقلال بأنفسهم عن
الجماعات اللبنانية الأخرى، ومن الإبقاء على انشقاقهم في منأى عن نوايا الجماعات الأخرى؟
لا جواب واحدًا على هذا السؤال، لا سيما أننا نتحدث عن أفراد لا رابط بينهم سوى خصومة
«حزب الله»، والخصومة لا تصنع جماعة. وعلى رغم ذلك يمكن المرء أن يُ جازف بانطباع
مفاده أن المنشقين الشيعة عن طائفتهم جرى توظيفهم على نحو سيء في معادلة قليلة على الإطلاق، استطاع عدد منهم أن ينأى بنفسه عن التوظيف، لكن آخرين، وهم
ليسوا قليلين أيضًا، انقادوا وراء التوظيف على نحو بلغ حد الاسترزاق. منهم من كانت صفته
مهنته، أي أنه يعمل كشيعي يناصب «حزب الله» العداء، وبعضهم استثمر في «الحصار
المضروب عليه في طائفته». وكان من الواضح منذ البداية أن لا مكان سياسيًا لأحد من
هؤلاء، فعندما دقت ساعة الحقيقة ومد تحالف «أمل» و «حزب الله» يده للتحالف مع
ُمنع حبيب صادق من حضور اجتماع
الحريري وجنبلاط وكان الاتفاق الرباعي الشهير،
البريستول، وكانت الرسالة واضحة: «انتم ورقة نهديها لطائفتكم في ساعة الوئام».
من الشيعة المنشقين، وبدا الانشقاق
وفي حينه كان الخطأ المؤسس، إذ لم يعترض أيّ
التحاقًا، وإمعانًا بالالتحاق، وها هم أنفسهم أصدقاؤنا مستمرون بالتحاقهم ويقفون وراء
من أقفل البريستول في وجههم يباركون له توريث نجله زعامة الطائفة والحزب.
لم يطمح أحد لبناء مقولة في خصومة «حزب الله» مستقلة عن مقولة خصوم الحزب
المذهبيين، وتحول كثيرون منهم إلى صقور المعسكر الآخر، وإلى ناطقين غير ُمكلفين
باسمه.
اقتصرت مكافآت «14 آذار» على النائب عقاب صقر، لكن اختيار الأخير نائبًا لم يكن جزءًا من
مشروع تأسيس شراكة مع جماعة في طائفة، بقدر ما كان مكافأة للشخص أو ًلا، وفرصة
سريعة أتاحها التنافس الانتخابي في مدينة زحلة. في بيروت مث ًلا، حيث جرى تعاون انتخابي
مع الخصوم، جرت التضحية بأشخاص مثل إبراهيم شمس الدين نجل الرئيس السابق للمجلس
الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مذبح هذا التعاون.
نماذج الشيعة المنشقين في لبنان لا تحّمس على الانشقاق، فنزاهة الانشقاق من
المفترض أن تتوافر بموازاة مناعة ُتحصن من الالتحاق ومن القبول بالتوظيف. وما عجز
أصدقاؤنا عن الإتيان به هو أن يقدموا على ما أقدموا عليه كأفراد وأن ينسحب احتقارهم
الاصطفاف الطائفي على الاصطفافات الموازية التي شطبت وجوههم قبل أن تشطب
وجوه الخصم الطائفي.
ُملتَحق بها، واستعيض عن
أما تحويلهم إلى مسترزقين فهذا ما دأب عليه قادة الطوائف ال
خيار التحالف مع شيعة من خارج دائرة تحالف «أمل» و «حزب الله»، بأن ُوّزعت مكافآت ما
لبثت أن نضبت. وهنا ربما نشهد قريبًا، بعضًا من حنين إلى حضن الطائفة الدافئ.