يروى ان رئيس مجلس النواب نبيه بري فوجئ عشية وضع رسالة الرؤساء الخمسة السابقين الى قمة البحر الميت بمن يدخل عليه في مكتبه حاملاً رسالة أتته عبر رسول من الرئيس امين الجميل. والرسالة كانت عبارة عن مظروف كبير يحتوي على نسخة من نص الرسالة التي لم تكن ساعتئذ قد أخذت بعد طريقها الى الاعلام.
وينقل زوار بري عنه انه سُرَّ بأن يضعه صديقه الرئيس الجميل في جو أمر كان في حينه طي الكتمان، وان يكون اول العارفين بالحدث المدوّي قبل ان يذاع ويشاع. لكن ضغطه كان يعلو درجة مع كل سطر يقرأه من الرسالة إياها نظراً الى الأبعاد المنطوية عليها.
ومعلوم انه خلال الايام الثلاثة التي تلت اذاعة الرسالة، كان بري الاكثر اهتماما والاكثر استياء الى حد الاستفزاز من مضامينها ومن الاجواء التي استولدت فيها والاكثر استعدادا للذم بها والنيل منها. ففيما أدار رئيس الجمهورية وفريقه الاذن الصماء لها لائذين بالصمت ومعتصمين بلامبالاة، واكتفى المعني الاول بالرسالة، اي "حزب الله"، برد غير مباشر مختصر فحواه: ان الرسالة وُضِعت بايحاء خارجي، وهو ما ورد على لسان الرئيس اميل لحود في مقابلة حصرية له على قناة "المنار"، أصر بري على النيل من الرسالة في اربعة تصريحات وردت على لسانه او نُسِبت اليه.
وبحسب معلومات، فان بري لم يكتفِ في معرض "مواجهته" للرسالة بهذه الحدود، بل ذهب في رحلة بحثٍ وتقصٍ عن أبعادها وخلفياتها، فوجّه استهلالاً رسالتَي عتب شديد الى صديقيه الموقعين عليها الرئيسين تمام سلام ونجيب ميقاتي انطلاقا من انه يفهم سلفاً اسباب توقيع الثلاثة الآخرين على الرسالة اياها، ولكنه يستغرب منهما بالذات إقدامهما على هذه الخطوة، وقد حرصا طوال العقد الماضي على تمييز مواقفهما وكان ذلك عاملاً من عوامل التسويات الوطنية. وبالطبع فان مَن يعرف بري يعرف انه كان يبحث عن سر آخر.
وعليه تشير المعلومات اياها الى ان بري اتصل بسلام هاتفياً معاتباً ومستفسراً، فردّ عليه الاخير بما معناه ان الرسالة لها "وليّها" الذي كان على علم مسبق بها، وبالتالي ليست مجهولة النسب. وفي الوقت عينه وجه بري رسالة شفهية عبر وسطاء الى ميقاتي الذي كعادته اعتصم بالصمت عندما يقبل بأمر لا يحظى برضى من لدنه عليه، فلم يرد على رسالة بري ولم يبرر.
الذين هم على تماس بأجواء بري والاسباب التي أملت عليه هذا الحجم الاستثنائي من رد الفعل السلبي على هذا الفعل، ينطلقون في معرض تحليلهم لهذا السلوك من نقطة هي ان بري ومعه جمع من المهتمين والمعنيين وجدوا في الرسالة الخماسية ومضامينها وتوقيتها انها اول اختبار تحدٍ حقيقي للعهد الرئاسي بركنَيه، او اول صدمة جدية ومدوية له منذ انطلاقته قبل اشهر، وان البحث ما زال جارياً عما يمكن ان يلي هذه الخطوة من الفريق الذي قام بها.
لماذا؟
لاعتبارات عدة : اولها ان الرسالة لم تأتِ من فراغ، فهي بالتأكيد ولدت في كنف رحم سياسي معروف يشارك فيه اثنان من خمسة ينتمون، الى اجل غير مسمى، الى جهة سياسية تشارك بقوة في معادلة الحكم الواعدة والمنطلقة للتو. وبهذا المعنى فان الرسالة إن أتت بعلم الرئيس سعد الحريري فهي تنطوي على امر ليس اقله انه بدأ يمارس الشيء ونقيضه او انه يستفيد من التناقضات، وإن أتت من غير علمه وغير مباركته، وهو الاحتمال الاضعف، فذلك امر تفسيره الاوّلي ان هناك من بدأ رحلة تشويش على العهد وخياراته السياسية العليا، وان ذلك في مضمره لون من ألوان الانشقاق الداخلي او الابتزاز.
وامام هذا التطور، ثمة في الجو السياسي من استذكر مقولة سرت غداة اعلان الحريري قبوله المفاجئ وبعد طول ممانعة بخيار عون رئيساً، فحواها ان الرجل اقدم على ركوب هذا المركب الخشن بقرار من لدنه انطلاقا من مسلّمة: "دعوني اصنع خياراتي بنفسي وعلى مسؤوليتي وسأقدم الحساب لاحقا". ومذذاك الى قبيل ساعات من ظهور الرسالة الخماسية امام الاضواء، كان الاعتقاد ان ثمة رعاية او على الاقل توافقا اقليميا على حماية التفاهم الذي انتج الحل الرئاسي، واستطرادا ان الحريري سيصب جام جهده لعدم عرقلة تجربة الشركة السياسية الجديدة التي كان هو واسطة العقد فيها، وعليه فهو بالتالي سيتحرر الى حد بعيد من سمات النهج السياسي الذي سار على هديه في اعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وغداة اسقاط حكومته الاولى، ولا سيما مسألة صراعه الدائم مع "حزب الله" وفريقه السياسي، خصوصا بعدما بدأ حواره الشهير مع الحزب برعاية عين التينة.
لم يعد خافياً ان بري الذي تنكب لجبه الرسالة الخماسية ابدى اعتراضا على تركيبة الحكم الحالية وهي في طور التكوين الاول، لكنه ما لبث لاحقا ان انخرط فيها وسار في ركابها وصار معنيا من موقعيه الرسمي والحزبي بالدفاع عنها وحمايتها في سبيل صون الاستقرار والحيلولة دون العود على بدء وتكرار التجارب المريرة السابقة. والثابت ان بري يدرك تماما الموجبات المعلنة والدفينة التي دفعت بكل من الرؤساء السابقين الى السير بالرسالة، وهو كما سواه من القوى مهتم اكثر ما يكون باستشراف هل ان هذا الفعل "الرسالي" عابر وغب طلب لحظة انعقاد قمة البحر الميت، ام انه اعادة اعتبار لنهج مشاكس وباعث على التوتر والاحتقان الداخلي خدمة لتوجه اقليمي جديد؟
على رغم ان بري المتضلع من لعبة السياسة اللبنانية بخباياها وتفاصيلها، فان المقربين منه لم يجدوا لديه بعد الجواب الحازم والقاطع. لذا فهو لا يكتم خيبة امله من الرسالة ومن موقعيها، ولذا يكرر في مجالسه عبارة ملخصها: "البعض يصر على ألا يتعلم من تجاربه المرة ومستعد لتكرار الخطأ عينه الف مرة ". وسواء مرت الرسالة كما تمر عشرات الرسائل المماثلة ام لم تمر، وان لها ما يليها، فهي عند بري "مؤشر وعيّنة".
(ابراهيم بيرم)