انتظر رئيس الحكومة سعد الحريري تحديد السعودية موعداً لزيارته المملكة منذ ترؤسه حكومة استعادة الثقة. كان الشيخ سعد يتهيّب الذهاب بدعسة ناقصة. لا يريد زيارة شكلية بروتوكولية.

أمّن الملك سلمان بن عبد العزيز للحريري مظلة سياسية لعودة لائقة ومشرّفة معنوياً إلى الرياض. انتقل رئيس الحكومة من العاصمة الأردنية عمّان مرافقاً خادم الحرمين الشريفين على متن الطائرة الملكية إلى الرياض بعدما رافقه في الطوافة من مقرّ القمة العربية في البحر الميت إلى عمّان. نُفخ بالزيارة في الإعلام، فالموعد المنتظر مع وزير الدفاع محمد بن سلمان حصل وأخيراً، ما يؤشر إلى بداية حلحلة في العلاقة، بعدما اكتنف الحريري قلق الذهاب إلى وطنه الثاني طيلة المرحلة الماضية، في ظروف غير مرضية وفي ظلّ تصفية تعرّضت لها مصالحه. تحمل تحركات الحريري في ثناياها، وفق مصادر مطلعة، عقدة عرش السلطة منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً. اعتمد مجموعة ضوابط منذ انعطافة عودته إلى رئاسة الحكومة. أدرك أنّ قواعد اللعبة تغيّرت، وأنّ رهاناته الاستراتيجية على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد تبدّدت.

أدرك الشيخ سعد، وفق مصادر مقرّبة منه أنّ حزب الله له الكلمة الفصل في الشؤون الكبرى في لبنان. لا يمكن تبوء كرسي رئاسة الحكومة بعد الانتخابات النيابية من دون الـ «لا ممانعة» من «المقاومة». فهو يعلم أنّ أدوات القوة التي استخدمها في المرحلة الماضية، لم تعد صالحة للمرحلة الراهنة ومنها المحكمة الدولية كوسيلة ابتزاز.

انتهى رهان «وادي ابو جميل» على اشتباك إقليمي بين حلفين كبيرين، فمفاعيله اللبنانية لم تعد مجدية. كلّ السبل أقفلت أمام رئيس التيار الأزرق لكي يبقى محافظاً على حضوره وتوازنه على صعيد المال والأعمال. وحدها رئاسة الحكومة، تشكل ملاذاً آمناً تحفظ له كرامته.

أجرى الحريري إعادة قراءة براغماتية وجريئة، بضوء أصفر سعودي. يمارس سياسة إحناء الرأس أمام العاصفة. لا يعني ذلك أنه ينتظر مرور العاصفة لكي يغيّر خياراته، لكنه يكسب الوقت. فهو استعاد رئاسة الحكومة، ويطمح لـ DEAL مع السعوديين حول الموضوع المالي، وما تبقى له من نفوذ في المملكة على صعيد مصالحه والتعويض المستميت عليه بالبقاء في السلطة.

يُبدي الحريري استعداداً لتقديم التنازلات السياسية الواحدة تلو الأخرى. هذه التنازلات من شأنها أن ترضي طموحه بأن لا تؤول الرئاسة الثالثة إلى غيره طيلة ولاية رئيس الجمهورية.

ذروة تنازل بيت الوسط تمثّل في موضوع قانون الانتخاب. وفق المعلومات، أبدى رئيس الحكومة، في مرحلة معينة، شخصياً وعبر ممثليه المقرّبين، خلال اجتماعات ثلاثية حصلت بين حركة أمل وحزب الله وتيار المستقبل، استعداده للموافقة على إجراء الانتخابات على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة وفق النسبية الشاملة. ثم أبدى في مرحلة لاحقة استعداده للموافقة على اعتماد النسبية على أساس المحافظات مع الصوت التفضيلي مقيّداً بالقضاء.

لا يريد الحريري إلا إعادة إنتاج ديمومة بقائه في السلطة. لا يقدّم رئيس تيار المستقبل التنازلات إلا لحزب الله المتمسك بالنسبية الكاملة. فاجأ الحريري، بموقفه من النظام الانتخابي، وزير الخارجية جبران باسيل، الذي خلت كلّ صيغه من النسبية الكاملة.

هناك من يقول إنّ قطار تعويم الرئيس الحريري وضع على السكة. لكن الأكيد أنّ رئيس الحكومة الحالي لا يشبه نفسه قبل 10 سنوات. خطابه تبدّل. استعاد ديناميكيته. يعمل على بناء شراكة مع رئيس الجمهورية تتجاوز حرفية ما يقوله الطائف. يُظهر ولو شكلياً عدم انزعاجه من طغيان حضور الرئاسة الأولى إعلامياً على حضور الرئاسة الثالثة. اتخذ قراراً بعدم الخصام مع بعبدا وتظهير مشهد التفاهم داخل مجلس الوزراء. يمارس نوعاً من الانسجام المبالغ فيه بينه وبين الرئيس عون والتيار الوطني الحر للحدّ من الخسائر.

وبحسب المقرّبين منه، ينكبّ الحريري على دراسة وضع المنطقة. يترقب أسوة بالآخرين من القيادات السياسية ما ستكون عليه سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الإقليم، وانعكساتها على لبنان.

الأهمّ عند الحريري مصالحه «وسط البلد». والثابت أنّ مقاليد الحكم ستعوّض له معنوياً ما خسره في السنوات الماضية من حضور سياسي ذي أهمية. ويمكن في لحظة معينة أن يستعيد مادياً جزءاً من خسائره التي تكبّدها في السعودية، في ظلّ الحديث عن شراكة ما مع نقيب المهندسين السابق سمير ضومط في ما يخصّ «البواخر والكهرباء»…! 
هتاف دهام