يقال أن أزمة الفكر العربي ولغته كامنة في تلافيف تراثنا، ويقال بل في مناهج قراءتنا لهذا التراث وتحديدًا في مآلات إنشطار العقل الإسلامي وتدهور العلاقات البينية بين مشاريع الإصلاح الديني والسياسي من جهة، وأدائها الصراعي مع الآخر لا سيما في سياق اصطدامها مع ثقافة المستعمر وامبرياليته الفلسفية والفكرية من جهة ثانية.
ويقال - سقطت حضارتنا مرتين في المشرق وفي الأندلس وسقطت معها مقالة العقل في الإسلام ولم تعاود ظهورها على مسرح الأفكار إلا في القرن التاسع عشر - فنشأت على جبهاته وضفافه تيارات الإصلاح والإصلاح المضاد وبرزت إتجاهات الإرهاب الفكري وظواهر التخلف وتشويه القيم وإغتيال الحريات فانتهى إجترار الأزمة إلى ما نحن عليه من جمود فكري وركود ثقافي خاضع لأخطبوط الاحتلال الجديد وإرهابه المتخصص بإحتلال العقول.
لم نلتفت بعد إلى آثار الأزمة وانعكاس نتائجها على مشكلات الوعي بالذات وتحديات العلاقة مع المنتوجات الثقافية المغايرة، وما تزال صورتنا مكبلة بقيود التقليد لماضٍ لا يمكن استعادته بالحنين إليه كما هو ولحاضر لا يمكن مجاراته بمجرد الانبهار بتفوقه الذي ملأ اليوم فضاءنا الفكري والثقافي والسياسي.
إذن نحن محاصرون بأزمة الفكر التقليدي واللغة الغائبة عن زمن الواقع المعيش، فيما حوار الأديان والثقافات يستعد للنهوض بحيرة وقلق في زمن أرهقته الحروب والفتن فانشغل في بعض منابره بقضايا لا تمت إلى روح الدين والثقافة بصلة، فشهدنا في الراهن المعاصر كيف يجري الحوار في كثير من تطبيقاته خارج الفكر وخارج اللغة المشتركة وخارج الدعوة إلى تطوير مجتمعنا المتعدد بظواهره المختلفة وليس في هذا أي تسفيه أو استنقاص لجهود من سعى ويسعى إلى حوارات التنمية والحياة .
إقرأ أيضًا: الإستثمار في الحوار وفي الإنسان
تظهر محنة اللغة في بلبال قواميسها الدينية والثقافية وقد التبست فيها مصطلحات التغيير والإصلاح وتسميات القيم المعيارية التي يعاكس بعضها بعضًا بتلاطم الثنائيات المتحاربة فوق أرضنا المغتصبة وقد رفع أهلها شعارات التخوين والتكفير بديلاً عن شعارات تحرير العقل والأرض .
كذلك تحضرني الآية المباركة " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ " – الرعد: 11 - المثخنة بأثقال ما حملته من أوزار الجاهلية والجهل وقد عاث فساداً وإفساداً وتسلل إلى عقر هويتنا فكراً ولغة وثقافة، ومن طرائف الدعابة الإصلاحية أن يتحدث جمال الدين الأفغاني عن أزمة العقل الإسلامي في زمانه ويقول: ( إن على المسلمين أن يتدينوا بدين اليابان كي يستعيدوا مجدهم بعد أن فسد المسلمون وأصبحوا قادرين على إفساد غيرهم ).
وبكلمة .. إذا كانت العلاقة بين اللغة والفكر حقيقة مركوزة في أعماق الكائن الإنساني وفطرته , فإن تجليات هذه العلاقة في الاجتماع البشري مرهونة بالحوار بوصفه حاجة معرفية وضرورة من ضرورات الحياة وإجتماعياتها، ذلك أن الموضوع الحقيقي للحوار هو الإنسان وقيمه في المعنى والمصير، ورباطه الوثيق بدينه ودنياه هو الحوار البصير بخطوط التمايز بين فضائل الاتصال والتواصل ورذائل القطع والقطيعة.
ولا يمكن إكتشاف الأزمات التي تشوب الحوار وتضغط عليه من دون تحديد الأمراض التي تعتري اللغة وتصيب الفكر في مشهدنا الثقافي والديني والسياسي، ومحال أن يتغير هذا المشهد البائس بغير حوار تسوده روح البحث عن المشكلات والتماس حلولها بفكر لا يزهو باستبداد الجهل والخرافة ولغة لا تتباهى بدفن رأسها في الرمال .
إن تعطيل فاعلية الحوار بلغة تخرج عن مسار الواقع وفكر يهرب من مسار التحديات في مثال الذين يطالبون باستنساخ التجارب التاريخية وإسقاطها على عالم متغير تمادى بانقياده الأعمى للتراث وتحول إلى سلطة معرفية ومرجعية تمتهن إكراه الناس على الدين بعنف لا يتردد في فرض أيديولوجياته الدينية بقوة السلاح .. والسؤال : إذا كانت مهمة الحوار إنقاذ اللغة والفكر من نوازع القمع في شكله الديني والسياسي فمن المسؤول عن تعطيل فاعليته ؟ وكيف نعيد ترتيب علاقة اللغة بالفكر عن طريق معالجة التخلف الثقافي المتحجر والمأزوم على المستويين الديني والسياسي؟
إقرأ أيضًا: هواجس الحوار ومطالعاته الإصلاحية
إن شعار إصلاح الفساد بالنصوص وإعتبارها وصفات سحرية قادرة على اجتراح الحلول الجاهزة لمشكلاتنا المعقدة، يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لمراجعة عقلانية نقدية وشاملة تعيد النظر في الحلقات المفقودة من مناهج التفكير لنحدد بالدقة العلمية والموضوعية نظرتنا إلى جذور المشكلات وتنظيم حلولها الممكنة في أرض الواقع، وخيارنا بهذا المرتجى هو الإنتقال بالحوار من حوار المماحكات الدينية والسياسية القاصرة عن فهم ما يحدث من حولنا من أخطار وفتن، إلى حوار واعد ببناء اللغة السليمة والفكر الصحيح فلا تنزلق ثقافتنا إلى حضيض تصحرها وجهالات انقساماتها قتيلة وقاتلة.
وفي ضوء ذلك كله نحن مجبرون على رد الاعتبار للحوار النقدي من أجل فهم أفضل لصورتنا المضطربة داخل إشكالاتنا المعرفية وعاهاتنا الفكرية بعد قرن كامل من أحلامنا الوردية التي زرعناها عشوائيًا بفوضى الحبر والورق فأنبتت في حقولنا تزييفاً لمساحات اللغة والفكر وفي مقدمها تزييف أدوات الإشارة التي تستعمل في مواقعنا الدينية والسياسة لغير ما وضعت له بلاغة التعبير فانتشر الخبيث الذي يصيب اللغة بلسانها الكذوب والضلال الذي يصيب الفكر بعينيه فيعمى بتطبيقه الأعمى لثقافة تجيئه من وراء التاريخ أو من وراء البحار لا فرق ! ..