عام 1979 تفجرت الثورة في إيران. كانت موجهة في المقام الأول ضد النظام البهلوي الشاهنشاهي الحاكم. وبعد نجاحها، سرعان ما بدت الحاجة الملحة إلى استحداث نظام سياسي جديد، يحول رجال الدين الإيرانيين، الذين قادوا الثورة، إلى سلطة سياسية حاكمة تقبض على جميع الأمور، لذلك تم إقرار نظام ولاية الفقيه.

ما هو نظام ولاية الفقيه؟

ولاية الفقيه هو نوع من الاجتهاد الديني السياسي الشيعي المعاصر، تم تطبيقه في إيران، عقب نجاح الثورة الإسلامية في الإطاحة بحكم الشاه البهلوي. وكان آية الله روح الله الموسوي الخميني، أول مرجع ديني يتولى منصب ولاية الفقيه في إيران، حتى وفاته عام 1989، ليخلفه آية الله علي خامنئي، الذي لا يزال حتى وقتنا هذا المرشد الأعلى للثورة وصاحب السلطة الأعلى في البلاد.

ومن الممكن أن نعرف ولاية الفقيه بحسب ما جاء في كتاب "ولاية الفقيه وتطورها" لخالد التويجري، بأنها "قيام الفقيه الجامع لشروط الفتوى والقضاء مقام الحاكم الشرعي، وولي الأمر، والإمام المنتظر في زمان غيبته، من إجراء السياسات، وسائر ما له من أمور، عدا الأمر بالجهاد الابتدائي، وهو فتح بلاد الكفر بالسلاح، مع خلاف في سعة الولاية وضيقها".

كيف تطور نظام ولاية الفقيه؟

لعل من المهم أن نتناول في عجالة التطور التاريخي الذي لحق بمفهوم السلطة في العقلية الشيعية، إذ تمخض ذلك التطور في نهاية الأمر عن ظهور نظرية ولاية الفقيه.

اعتقد الشيعة أنه بعد دخول الإمام الثاني عشر إلى فترة الغيبة الكبرى عام 329هـ، أنه يحرم إنشاء أي كيان سياسي شيعي، ويجب أن يتم الانقياد للسلطة الغاصبة القائمة. فقد جاء في كتاب "الكافي" للكليني، وهو من أهم كتب الحديث عند الشيعة، ما نصه: "كل راية ترفع قبل راية القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله".

واستمر ذلك الاعتقاد مهيمناً على العقلية الشيعية الجمعية، حتى منع الشيعة من إقامة صلاة الجمعة وتحريم أدائها وقت غيبة الإمام. واستمر ذلك حتى القرنين السابع والثامن الهجريين، حين ظهرت بعض الآراء التي أجازت أن يقوم الفقهاء بإمامة المصلين في صلاة الجمعة باعتبارهم نواباً للإمام الغائب.

ومن الممكن أن نعتبر أن ذلك التغير كان المقدمة لظهور نظرية ولاية الفقيه، فمع تأسيس الدولة الصفوية، واتجاه ملوكها لنشر المذهب الشيعي الإمامي في عموم إيران وبلاد فارس، حاول بعض الملوك الصفويين أن يقووا نفوذهم، ويوطدوا حكمهم بإشراك بعض الفقهاء والعلماء معهم في الحكم. ومن ذلك ما قام به "طهماسب"، العاهل الثاني للدولة الصفوية، عندما استدعى علي بن الحسين الكركي العاملي، المعروف باسم المحقق الثاني، وأشركه في الحكم، وأصدر منشوراً بذلك. وبهذا بدأ الكركي في تطبيق النيابة العامة عن الإمام المنتظر.

وبعد الكركي، نستطيع أن نلاحظ أن مبحث ولاية الفقيه وجد اهتماماً ظاهراً في كتابات عدد من العلماء الشيعة، لعل أهمهم أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني.

فقد أفرد النراقي مسألة ولاية الفقيه تحت عنوان مستقل، الأمر الذي جعل من يأتي بعده من العلماء، يهتم بتلك المسألة، ويفرد لها مساحات واسعة في كتبه ومصنفاته. وهكذا دخلت مسألة ولاية الفقيه لتحتل مكانة كبيرة في الكتابات والمجادلات والمناقشات الفكرية والفقهية الشيعية، التي شهدت آراء موافقة وآراء معترضة على تطبيق تلك النظرية.

ما هو دور الخميني في تطور نظرية ولاية الفقيه؟

الاهتمام الأكبر بنظرية ولاية الفقيه في العصر الحديث ظهر من خلال مؤلفات وأفكار آية الله الخميني. ويبرر بعض الباحثين أهمية تلك المسألة ومركزيتها عند الخميني، بتأثره بالفلسفة وفكر السهروردي، الذي يزعم أن "الزمان لا يجوز أن يخلو من ولي متأله هو مناط السلطتين: الروحية والدنيوية، وهو الإنسان الكامل على الحقيقة".

ومن أهم الكتب التي تضمنت أفكار الخميني حول ولاية الفقيه، كتابه الأشهر "الحكومة الإسلامية". إذ يطرح فيه عدداً من المقدمات والأسس الرئيسية، التي يبني عليها أطروحته السياسية المتعلقة بولاية الفقيه.

فالخميني في كتابه يعتبر أن مسألة ارتباط الدين والسياسة "فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أن من عرف الإسلام أحكاماً وعقائد يرى بداهتها". فلما كانت مجموعة القوانين وحدها لا تكفي لصلاح حال المجتمع المسلم، فقد لزم أن تقوم سلطة تنفيذية بإقرار تلك القوانين والحفاظ عليها، وتنفيذها ومعاقبة من يخالفها.

وتلك الحكومة سوف تتحمل الكثير من الأعباء، منها أعباء الأحكام المالية، وأحكام الدفاع، وأحكام الحدود والديات والقصاص.

ويرى الخميني أن هناك شروطاً عامة يجب أن تتوافر في الحاكم في الدولة الإسلامية، مثل "العقل، البلوغ، وحسن التدبير". بينما يجب أن تتوافر فيه بعض الشروط الخاصة، وهي "العلم بالقانون الإسلامي والعدالة". ولما كان الخميني يرى أن هذين الشرطين متحققان في معظم فقهاء الشيعة الإمامية في عصره، يخلص إلى أنه "إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين عليه السلام على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة".

ويسارع الخميني في طرحه بالإقرار أن ولاية الفقيه تتبع الخط النبوي والإمامي، الذي يرى أن الحكومة الإسلامية ليست مطلقة، إنما هي دستورية. لكن الدستورية التي يقصدها الخميني ليست كتلك المتعارف عليها في الدول الحديثة.

فالدستورية في وجهة نظره "لا تتمثل في النظام البرلماني أو المجالس الشعبية، إنما هي دستورية بمعنى أن القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة من الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، والتي تتمثل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه. ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي".

من هنا تم التأسيس الفكري لنظرية الولي الفقيه في العصر الحديث، فاستطاع الخميني أن يطبق أفكاره النظرية بشكل عملي واقعي في إيران، عقب نجاح الثورة.

من من العلماء أيد نظرية الخميني في ولاية الفقيه؟

من المهم أن نلاحظ أن الخط الفكري العام الذي اتخذه الخميني، والذي يرى ضرورة المشاركة السياسية للفقهاء ورجال الدين الشيعة في العملية السياسية، أيده عدد من العلماء والمراجع الشيعة الكبار، قبيل الثورة الإسلامية الإيرانية وفي بدايتها الأولى. وكان من أهم العلماء والمراجع الذين أعلنوا اتفاقهم مع أفكار الخميني، آية الله حسين علي منتظري، الذي صرح في كتابه المهم الموسوم بدراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: "وليس عدم اطلاع الفقهاء على المسائل السياسية وعدم ورودهم فيها إلى الآن عذراً لهم ولا مبرراً لقعودهم وانزوائهم عن التصدي للحكومة وشؤونها، بل يجب عليهم الورود والخوض فيها وتعلمها، ثم ترشيح أنفسهم لما يتمكنون القيام به من شؤونها المختلفة، ويجب على الناس انتخابهم وتقويتهم، إذ الولاية وإدارة أمور المسلمين من أهم الفرائض، فإنها الوسيلة الوحيدة لإجراء العدالة، وتنفيذ سائر الفرائض الإسلامية. فالانزواء عنها وإحالة شؤون المسلمين وإدارة أمورهم وبلادهم إلى الطواغيت وعملاء الكفر والفساد ظلم كبير على الإسلام والمسلمين".
ويعتبر عموم رجال الدين من الشيعة في إيران من المؤيدين لنظرية ولاية الفقيه ومن المساندين لها. كذلك الكثير من الجهات الخارجية المتحالفة سياسياً مع طهران، وأشهر تلك الجهات هي حزب الله في لبنان وأمينه العام السيد حسن نصر الله.

من عارض النظرية؟

التوافق المبدئي بين أفكار منتظري من جهة وأطروحة الخميني حول ما يتعلق بولاية الفقيه من جهة أخرى، سرعان ما انهارت بعد وصول الخميني إلى السلطة وعمله على السيطرة على الدولة الإيرانية بشكل كامل.
فرغم أن منتظري تم اختياره ليكون خليفة للخميني، وليشغل منصب نائب المرشد الأعلى للثورة، فقد أعلن اعتراضه على الشكل السلطوي الذي يمارس به الخميني ولايته الفقهية للدولة. فأقيل من منصبه، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله، وأبعد عن المشهد السياسي في إيران.
ولم يكن منتظري الشخصية الدينية الوحيدة التي أبدت اعتراضها على الشكل الذي مورست فيه ولاية الفقيه عقب الثورة. ففي داخل إيران أعلن آية الله العظمى شريعتمداري رفضه وتحفظه على سياسات الخميني وممارسته للسلطة بشكل منفرد، رغم أن شريعتمداري كان من ضمن العلماء الذين تكاتفوا لإنقاذ الخميني من السجن والإعدام على يد الشاه المخلوع قبل الثورة. إذ تم الاكتفاء حينذاك بنفيه خارج إيران، بعدما وقّع شريعتمداري مع غيره من العلماء على قبول الرسالة العلمية للخميني، والتي بموجبها أصبح مرجعاً معترفاً به. وهو ما كفل له الحماية من غضب الشاه وسطوته، لأن الدستور الإيراني يمنع حبس واعدام المرجعيات الدينية.
وكان انتقاد شريعتمداري للخميني، سبباً في اتهام الأول بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم في الدولة، فتم إبعاده عن المشهد السياسي والفكري، والتفريق بينه وبين أنصاره وفرضت الإقامة الجبرية عليه.
ومن أبرز من عارض الخميني في مسألة ولاية الفقيه، المرجع الشيعي المعاصر محمد مهدي الشيرازي. فرغم أن الشيرازي كان مؤيداً للخميني في ثورته، ظهرت مع مرور الوقت الكثير من الخلافات في أوجه تطبيق نظرية ولاية الفقيه بينهما. فالشيرازي اعتقد بولاية عموم الفقهاء، وليس بولاية فقيه واحد، فدعا إلى "شورى الفقهاء" بمعنى أن جميع مراجع التقليد يشتركون في الحكم وفي إدارة الدولة.
أدى هذا الخلاف بين المرجعين إلى التضييق على الشيرازي في إيران، وتم منعه من إلقاء الدروس والخروج من منزله، وظل على ذلك الحال حتى وفاته عام 2001.
أما خارج إيران، فالكثير من الشخصيات الشيعية البارزة استنكرت تطبيق نظرية ولاية الفقيه واعتبرت أنها خروج عن الخط السياسي الشيعي التقليدي، وأن فيها تعدياً على سلطة الإمام المهدي. ولعل السبب الرئيسي الذي حدا تلك الشخصيات على ذلك، هو أنها وجدت أن تطبيق تلك النظرية والموافقة عليها، سيمثلان خطورة كبيرة على نفوذها المحلي وسيؤديان إلى انضواء كامل تحت راية مرجعية طهران التي تلبس ثوب "الولي الفقيه".
ومن أهم تلك الشخصيات الرافضة لتطبيق نظرية ولاية الفقيه، مراجع كربلاء والنجف الأشرف، ومنهم المرجع المتوفى أبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني ومحمد سعيد الحكيم، والعديد من العلماء الشيعة اللبنانيين البارزين أمثال محمد جواد مغنية، محمد حسين فضل الله، ومحمد جميل حمودي العاملي.