عبثاً يفلح في حبس دموعه، فلا أربعين يوماً ولا عاماً ولا دهراً قادرين على تخفيف ألم الفراغ الذي سكنه بعد رحيل معلمه ومُلهمه ورفيق أيامه و"مُدوزن" أنامله التي يفخر اليوم بأنها مصقولة بمعونة "ملك" لن يتكرر. ايلي الفقيه، أستاذ الإيقاع في المعهد العالي للموسيقى، ما انفكّ يبكي "أباه" الفنيّ، ستراك سركيسيان، الذي فقده لبنان والعالم العربي في أواخر شباط الماضي.
في منزله، غرفة خاصة للتدريب وحنين الذكريات، حيث مجموعة من الطبلات القديمة والحديثة. بفخر، يحمل الفقيه طبلة حُفر عليها اسم "ستراك". "هذه تعود له. عمرها عندي أكثر من 35 عاماً"، يقول لموقع "لبنان24"، مستذكراً قصتها:" دخلت ذات مرّة محلاً لتصليح الآلات الموسيقية باحثاً عن شراء طبلة قديمة، أي تلك التي كانت تُصنع من جلد السمك، فأخذني صاحب المحلّ إلى مستودع وطلب مني أن أفتش هناك علّني أجد مبتغاي. سرعان ما رأيت تلك الطبلة، وقد ألصقت عليها ورقة تحمل اسم "ستراك". كان قد وضعها هناك منذ مدّة ونسيها، فأخذتها فوراً إليه وفعلاً تذكرها. لكنه قرر أن يهديني إياها، وهذا ما حصل".
تتغيّر نبرة الفقيه حين نطلب منه إخبارنا عن بداية علاقته بـ "ستراك سركيسيان"، ضابط الإيقاع الأبرز وأحد أعمدة هذا الفنّ منذ أكثر من نصف قرن. واضحٌ أنّ الرجل لم "يهضم" فكرة الفراق بعد، ولهذا تتعثر كلماته بصمت يخفي حرقة في القلب: "عرفته منذ العام 1987، ومن المعروف أنّ "ستراك" كان في ذلك الوقت في أوج إبداعه ونجاحاته وشهرته. قررت أن أقصده، لا سيّما وأن ثمة علاقة بين عائلتي وعائلته. كنت بطبيعة الحال مولعاً بالطبلة وأخال نفسي متمكناً منها، إلى أن قابلته وأسمعته ما لديّ. أذكر جيداً وجهه وهو يقول لي: "هيدا ما بيسوى!". ومن هناك بدأت الرحلة.. تدريبٌ شبه يوميّ، مع العلم أن "ستراك" لم يكن يدرّب أحداً".
لكن يبدو أن الراحل "ستراك" لم يكتف بتدريب الفقيه والاستماع إلى عزفه الذي راح يُصقل يوماً بعد يوم. فبحسب ما يقول، اختار "ستراك" أن يفصح عن سرّ عزفه المتميّز، فدرّبه على تلك "التقنية" التي لا يطبقها أحد آخر.
نسأل الفقيه عن ماهيّة هذه التقنية، وهو اقدر من يمكن أن يشرح تقنيات الإيقاع الشرقي لكونه قد أصدر لاحقاً كتباً متخصصة في هذا المجال، وأهمها كتاب "منهج الايقاع الشرقي -طبلة-" المعتمد في الكونسرفتوار والذي كان أولّ منهج يوضع لآلة الطبلة، فيجيب باختصار:"لا يمكن أن تُفسّر! فعلاً، إنها روح وشغف، لكن طبعاً تتعلق أيضاً بطريقة وضع اليد على الطبلة وأماكن محددة للضرب عليها".
يقرّ الفقيه أنه بكى مراراً وتكراراً لمدّة عام كامل قبل أن يخبره "ستراك": "لقد أصبحت تضبط الإيقاع مثلي". و"سرّ" من حاز لقب "ملك الطبلة" دون منازع يكمن في قدرة أي مستمع على تمييز صوت طبلته دون سواها، من دون أن يراه.
ومن المعروف أن الراحل "ستراك" أدخل آلة الطبلة كعنصر أساسي في الفرق العربية الموسيقية، وتمكن من أن يصبح حالة فريدة من نوعها رغم عدم تلقيه أي تدريب أو دروس متخصصة بل إن ما حققه كان ثمرة مجهود شخصي وشغف فطري للطبلة التي راقصت القلوب على مرّ السنين، ورافقت أهمّ الفنانين العرب واللبنانيين من الزمن الجميل أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز وسميرة توفيق وغيرهم.
وكما نعاه الفنانون لدى رحيله الجسديّ عن هذه الدنيا، فعل الفقيه الذي أراد تكريمه على طريقته الخاصة في ذكرى الأربعين التي أقيمت الأحد الفائت، فوّزع على الحاضرين قرصاً مدمجاً، مدته 45 دقيقة، جمع فيه "كوكتيلاً" من أعمال الراحل، ومن ضمنها ما لم يُسمع من قبل.
يؤكد الفقيه أنه حاول تسليط الضوء على تقنية "ستراك" الفريدة من نوعها في هذا الـ CD الذي يحمل عنوان "وتبقى الملك". وفيما تزحم العينين بالدموع مجدداً، تتسلل بارقة الفخر لكونه الوحيد الذي عرف "سرّ ستراك"، علماً أنّ الراحل لم يعلّم هذه التقنية لأحد، حتى لابنه.
نسأل الفقيه الذي يعلّم الإيقاع في الكونسرفاتوار ويعزف راهناً مع مختلف الفنانين في العالم العربي عمّا إذا كان ينقلها لطلابه، فيجيب فوراً: "اشترط عليّ معلمي ألا أكشف عنها أمام أحد. وأنا وعدته بذلك، ولن أنكث بوعدي".