كانت الخشية من أن يسير لبنان عكس التيار. لكن التيار عاكس نفسه. ربما، العدوى اللبنانية أصابت الجميع. فجاءت مقررات القمّة العربية على البحر الميت، على ضفاف القضايا الأساسية، أو تم ذكرها مواربة وموالفة. كل التقديرات، كانت تشير إلى تخوّف من الموقف اللبناني بأن لا يكون حاسماً وحازماً، لكن المقررات بأكملها كانت على الشاكلة اللبنانية التسووية المستندة على تلاعب لغوي غير واضح. خرجت القمة بلا شيء، برمادية يطغو الأبيض فيها على الأسود ليختفيا معاً، إلى جانب قضايا الساعة.
في تعليق أولي، فإن مقررات القمة لم تكن على قدر التوقعات والتطلّعات في شقّها العام. كررت المكرر، ركزت على فلسطين قضية مركزية مع استعادة مبادرة السلام العربية التي طرحت في قمة بيروت عام 2002. في سوريا، التي تشهد أكبر عملية إبادة في التاريخ الحديث، وتشهد أفظع عملية فرز سكاني طائفي ومذهبي، لم يجد المجتمعون سوى تكرار موقف قديم عن أهمية الحلّ السياسي، بدون الخروج بأي موقف واضح أو صريح أو تقديم أي فكرة جديدة أو مساعدة. الأمر نفسه بالنسبة إلى العراق، اليمن، ليبيا، وغيرها من المدن الذبيحة. والأفظع كان بعض التصريحات عن اعتبار الربيع العربي كعامل تخريبي للدول العربية، بخلاف النظرة التي تتحدث عن حتمية التغيير الشعبي. هو الموقف الذي تجلّت به المواءمة مع مواقف ميشال عون.
بدت القمّة وكأنها سارت إلى لبنان، وليس لبنان هو الذي سار إلى العرب وتضامن معهم. ربما هم من قرأ بكتابه. لذلك، لم يتحفظ لبنان على بعض البنود التي كانت يتحفظ عليها سابقاً، ليس بسبب تغيّر في مواقفه، إنما لإنتفاء وجود البنود. لم يأخذ العرب من لبنان ما يريدونه، أو على الأقل، ما توقعه معظم الساسة ووسائل الإعلام، الذين تحدثوا عن شروط عربية لإعادة بند التضامن مع لبنان. أعيد هذا البند قبيل القمة ومواقفها، مع تسريبات بأن لبنان سيلتزم التضامن العربي. لكن، من الناحية السياسية العملية، فإن الفكرة "المصرية، الأردنية، اللبنانية، العراقية" هي التي غلبت، وجرى خطّ البيان الختامي للقمة، على الطريقة اللبنانية في مقاربة الأمور الشائكة، بالإعتماد على البراعة اللغوية لعدم الإشارة إلى المكامن الأساسية للصراع أو الخلاف بشكل مباشر.
تفضي الواقعية بالإعتراف لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، بأن كلمته كانت الأفضل في القمة، حيث طرح في خلالها أفكاراً جديدة، تكفي فيها دعوته العرب إلى استعادة دورهم، والخروج عن بيانات الإستنكار والإدانة. أما التكرار العربي الآخر، والخروج عن تسمية الأمور بأسمائها، كان هدف عدم استدراج أي تحفظ أو اعتراض من المجتمعين على أي نقطة سياسية. اتفق العرب على التوافق، والاجماع، ولذلك فإن الحقائق تخيف في هذا المكان، فكان التخوف من توضيح المواقف السياسية، لأن الحسابات "التصويتية" كانت أهم من الحسابات السياسية، أو ربما تتوافق معها. بالتالي، إن تجنّب تحفظ كل من مصر، لبنان، العراق والجزائر، أفضى إلى عدم اتخاذ القرارات الواضحة.
إلى جانب التكرار في المواقف، كانت التسويات مشهودة، وقائمة على أساس الموازنة بين المتناقضات، فلم يذكر النظام السوري، وتحميله مسؤولية المجازر في سوريا، ولا حتى على دعم المعارضة السورية. جاء ذلك مقابل عدم حضور سوريا في القمة الأمر الذي طالبت به بعض الدول. وحده أمير قطر وجه الإصبع في اتجاه المتهم. الأمر الذي لم تلحظه القمة أبداً، بخلاف القمم السابقة منذ العام 2012.
أما بالنسبة إلى لبنان، فإن القمّة حملت مفارقات ومستجدات عديدة ووفيرة، أولها في الإستجابة والتفهم للموقف اللبناني، ولوضع لبنان الداخلي، عبر التأكيد على دعمه ودعم مؤسساته السياسية والدستورية والعسكرية والأمنية، ودعمه بمواجهة الإرهاب بأشكاله كافة. وهنا، لا شك أن عون استطاع تحصيل نقاط تُحسب له، أبرزها التفريق بين الإرهاب والمقاومة، والترحيب بعمل المقاومة بمواجهة العدو الإسرائيلي، مع تأكيد حق اللبنانيين في المقاومة، وعدم اعتبار العمل المقاوم عملاً إرهابياً. وهذا ما يعتبره البعض فصلاً لنشاط حزب الله في لبنان عنه في الخارج. بالإضافة إلى الترحيب بالجهود اللبنانية للتنقيب عن النفط وإستخراجه. وهذا بند طرحه عون وطالب به لحماية النفط اللبناني.
هذه النقاط، تعتبر تطوراً مهماً على صعيد القمم العربية بالنسبة إلى لبنان، وهي تختلف عن سابقاتها، وخصوصاً القمة الماضية، التي نأى فيها لبنان بنفسه عن البيان الختامي، الذي كان متسماً بالحزم تجاه إيران وحزب الله الذي جرى تصنيفه إرهابياً، فتحفظت الدول الخليجية على بند التضامن مع لبنان في قمة نواكشوط.
أما الفارق الأبرز بين مقررات القمة الحالية والقمم الأخرى، فكان بين قمة البحر الميت، وقمة شرم الشيخ في العام 2015، إذ فيها تبنى العرب دعم العمليات العسكرية في اليمن ضد الحوثيين، أما في ما يخص لبنان، فقد أكدت قمّة شرم الشيخ، توفير الدعم السياسي والإقتصادي له، وبسط أمنه وإستقراره على كامل أراضيه مع إدانة الإعتادءات الإسرائيلية على السيادة اللبنانية، لكن من دون أي إشارة إلى عمل المقاومة. وكذلك تختلف القمة الحالية بشكل جذري عن قمة الكويت في العام 2013، التي خلالها خصص مقعد سوريا لمصلحة الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. قمة بغداد في العام 2012، كانت مختلفة لناحية الشكل والحضور والمضمون. ولعلّ القمة الحالية تعكس هذا التحوّل الجذري، إذ إن البيان الختامي لـ"إعلان بغداد" لحظ إشادة بثورات الربيع العربي، واعتبرها تطلع الشعوب العربية إلى الديمقراطية، فيما لبنان لم يكن حاضراً سوى بفقرة روتينية، تحت عنوان "بند التضامن مع لبنان".
لا شك في أن ما خلصت إليه القمة الحالية، يوجب البحث والتمحيص عن الأسباب السياسية والموضوعية، وما تغيّر ليس بسيطاً. لذلك، من الواجب مراقبة التطورات التي ستليه، أو ستتداعى منه.