لم تمت الجامعة العربية بعد. أمرٌ ما كان إلا ليدفع باتجاه الأمل لو كانت الأهداف عربية وموحدة. هناك من أراد تحويل الجامعة إلى أداة بيد «واشنطن ــ ترامب»، وهي في أمسّ الحاجة إليها ضمن ترتيباتها الشرق الأوسطية: تسوية جديدة مع إسرائيل، إلى جانب «مواجهة إيران وتقليص نفوذها». أخفق هؤلاء في بعض الأمور، ونجحوا في أخرى، وظلوا متنبهين إلى أهمية عدم المغامرة في مسائل لم يحسمها «الراعي الأميركي» بعد. نقاط مهمة تضمنها «إعلان عمان». لكن وحده الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط، عرف كيف يؤطر خطاب «عرب ــ واشنطن» بلغة دبلومسية رفيعة. قال أمس: «تتردد أحاديث عدة عن السعي لترتيب منطقتنا ومن دون موافقتنا، وبما يخلق أوضاعاً جديدة في الشرق الأوسط... (لكن) الوضع العربي الحالي... ليس مؤهلاً بعد للدخول في أي ترتيبات طويلة الأمد للأمن الإقليمي في ضوء اختلال موازين القوى»

 
 

أعادت القمة التي استضافها الأردن في خلال الأيام الماضية الزخم إلى الجامعة العربية، ليس لناحية كونها منظومة تفعّل العمل العربي المشترك، بل لناحية أنها تتحوّل في خلال الظرف السياسي الراهن إلى أداة تُسهم في جمع الموقف حول ما يسعى إليه «الرعاة» الإقليميون، وقبلهم الدوليون.

وبالرغم من تأثير غياب دولة مثل سوريا، إلى جانب عزلة الجزائر وما بدا أنه اختطاف سعودي للموقف العراقي، على موازين القوى داخل المنظمة في خلال القمة الحالية، فإنّ تماهي «إعلان عمان» الذي صدر عقب اختتام القمة لأعمالها، مع توجهات إدارة دونالد ترامب، في الشرق الأوسط، بدا واضحاً.
وفي هذا السياق، شدد «الإعلان» على أنّ «السلام الشامل والدائم خيار عربي استراتيجي تجسده مبادرة السلام (بيروت 2002)... التي لا تزال تشكل الخطة الأكثر شمولية وقدرة على تحقيق مصالحة تاريخية» مع العدو الإسرائيلي. مصطلح «المصالحة التاريخية» مع إسرائيل، الذي يبدو جديداً على الخطاب العربي الرسمي والذي قد يؤسس لمرحلة جديدة في الصراع مع إسرائيل، لم يكن المؤشر الوحيد على تماهي زعماء القرار العربي الرسمي مع توجهات واشنطن الجديدة. ففي مسألة العلاقة مع إيران، كانت الانتقادات مباشرة، لكنها بدت في الوقت نفسه أسيرة المراوحة بانتظار معرفة ملامح التصوّر الأميركي بالخصوص.



وفيما رفض «الإعلان»، «كل التدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية، (وأدان) المحاولات الرامية إلى زعزعة الأمن وبث النعرات الطائفية والمذهبية أو تأجيج الصراعات»، فإنّ أمير الكويت صباح الأحمد الصباح، وحده من بين الزعماء العرب الذي ذكر إيران مباشرة في كلمته، مشيراً إلى «أسس احترام السيادة وحسن الجوار»، وداعياً إلى «استمرار المشاورات والحوار البناء بين دول المنطقة»، وذلك في ظل حديث عن مواصلة الكويت لمبادرتها بين طهران والرياض. كلمة أمير الكويت كانت لافتة أيضاً حين قال في بدايتها: «لقد أطاح وهم ما يسمى الربيع العربي أمن واستقرار أشقاء لنا».
أما في الشأن السوري، ففيما أكد «إعلان عمان» ضرورة «إيجاد حل سلمي، (إذ) لا حل عسكرياً للأزمة»، جاءت كلمة أمير قطر تميم بن حمد، متمايزة عن غيرها، وحتى عن كلمة ملك السعودية سلمان، التي كانت بدورها مقتضبة جداً. وفصّل تميم بن حمد في كلمته «مقررات مؤتمر جنيف 1»، مذكراً ببند «تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات»، مردداً كذلك أنّ «نظام الحكم شنّ (على الشعب السوري) حرباً شعواء شاملة، في سابقة تاريخية».
التمايز الواضح في كلمة قطر مقارنة ببقية الكلمات، أكد أنّ الدوحة لم تتراجع عن طموحاتها بلعب دور سياسي متقدم ومتزعم في العالم العربي.
وقد تميزت حتى لغة ولهجة تميم بن حمد بسقف ونبرة عاليتين في مختلف المسائل المطروحة، وذلك حتى حين قال: «لا يجوز السكوت على أن يصبح التحريض على حضارتنا العربية والإسلامية وبث سموم الكراهية ضد المسلمين، مسألة تنافس بين الأحزاب والقوى الشعبوية في الغرب، قد يطلب منا بعض الساسة أن نتفهم ظروف الحملات الانتخابية، وأنهم لا يقصدون ما يقولون، ولكن هذا عذر أقبح من ذنب، لأنه يجعل من كراهية المسلمين موضوعاً شعبياً».
ومن باب التلميح إلى رفض «المصالحة» مع مصر، تساءل تميم بن حمد: «إذا كنا جادين في تركيز الجهود على المنظمات الإرهابية المسلحة، فهل من الإنصاف أن نبذل جهداً لاعتبار تيارات سياسية نختلف معها إرهابية، على الرغم من أنها ليست كذلك»، في إشارة إلى «جماعة الإخوان المسلمين»، والتي يرعاها راهناً الثنائي التركي ــ القطري، علماً بأنّ هذا التساؤل يطاول أيضاً كلاً من السعودية ودولة الإمارات.
 
 

وفي الأيام الماضية أكد دبلوماسيون أنّ الأردن والبحرين تقودان مساع لطي صفحة الخلاف بين القاهرة والدوحة، لكن مصادر مصرية قالت لـ»الأخبار» مساء أمس، إنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي «اشترط اعتذاراً علنياً من الأمير تميم على مواقف الدوحة تجاه مصر، خاصة أن القاهرة تجاوزت كثيراً أخطاء الدوحة بحقها في الفترات الماضية». وأضاف المصدر أنّ السيسي «تعامل بحزم في هذا الملف خلال الحديث عن الوساطة الأردنية البحرينية لإتمام الصلح مع الدوحة، خاصة أنه وافق من قبل على هذه الخطوة تقديراً لمكانة الملك السعودي الراحل عبد الله، لكنه فوجئ باستمرار السياسات القطرية التي تستهدف إسقاط الدولة المصرية بعد رحيله، والتي لا تزال مستمرة». وشدد المصدر المقرب من الرئاسة المصرية على أنّ «حديث السيسي مع القادة العرب الذين بادروا إلى الوساطة، يعبّر عن السياسة التي توافقت عليها الأجهزة السيادية في مصر»، مشيراً إلى أن «هناك جملة من المطالب على الدوحة تنفيذها بعد الاعتذار، في مقدمتها تسليم القيادات الإخوانية الهاربة، والتوقف عن التدخل في الشأن المصري بشكل كامل».
إخفاق «المصالحة» المصرية ــ القطرية التي كانت إدارة ترامب تدفع إليها خلال الأسابيع الماضية، قابلتها عودة الدفء إلى علاقات القاهرة بالرياض بعد فترة من التوتر، أيضاً برعاية أميركية. وفي هذا الصدد، فإنّ أحد أبرز اللقاءات التي شهدتها الدورة الـ28 للجامعة العربية، كان القمة المصرية ــ السعودية، التي تمت بترتيبات واصل ملك الأردن عبد الله الثاني، متابعتها حتى قبل ساعات قليلة من انعقادها. ووفق مصدر مصري تحدث إلى «الأخبار»، فإنّ الأيام المقبلة ستشهد زيارات للمسؤولين السعوديين للقاهرة، بالتزامن مع زيارات مماثلة من المسؤولين المصريين للرياض، «على أن يجري ترتيب زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للرياض في خلال ستة أشهر، وربما أقل، تتبعها زيارة لسلمان لمصر». وبدا واضحاً أمس، اهتمام الملك سلمان بكلمة السيسي، خاصة حين دعا إلى اتخاذ «موقف حاسم» من التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، علماً بأن كلمة السيسي ركزت في جانب كبير منها على أهمية الحفاظ على «الدولة الوطنية» في العالم العربي، وعلى «الأمن الإقليمي». وبرغم قوله إنّ «مواجهة الإرهاب تبدأ بالحسم العسكري»، فإنه اعتبر أنّ «التصدي للفكر المتطرف على المستويات الدينية والأيديولوجية والثقافية، يتمثل في تطوير التعليم وتعزيز دور مؤسساتنا الدينية العريقة، وعلى رأسها الأزهر الشريف».
ولعلّ التأثيرات المهمة لتوجهات إدارة ترامب على المشهد السياسي العربي، انعكست أيضاً في التقارب المستمر والمتصاعد بين الرياض وبغداد، خاصة أنّ يوم أمس شهد اللقاء الأول بين رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والملك السعودي، وهو يأتي بعد أسابيع على دفع واشنطن بالرياض نحو التقرب من بغداد، في مسعى إلى «مواجهة النفوذ الإيراني في العراق»، كما يقول مستشارو ترامب. وفي مواقف بدت لافتة، دعا العبادي الذي زار واشنطن قبل أيام، إلى «موقف عربي موحَّد تجاه أي تجاوز على السيادة الوطنية للعراق أو أي دولة عربية». وفيما غابت سوريا عن كلمته، قال إنّ «العراق مقبل على مرحلة جديدة بعد القضاء على داعش، وطرده خارج حدودنا»، أي نحو الشرق السوري.


«إيران تريد الهيمنة»


فيما كانت القمة منعقدة، قال قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال جو فوتل، إنّ «(الحوثيين)، وعلى غرار مضيق هرمز، نشروا بدعم من إيران صواريخ للدفاع عن الساحل، ومنظومة رادارات، فضلاً عن ألغام وقوارب متفجرات جُلبَت من مضيق هرمز». وتابع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي أن هذه القدرات «تهدد التجارة، والسفن، وعملياتنا العسكرية في المنطقة».
وقال فوتل: «إنني قلق للغاية بشأن ظهور نقطة اختناق بحري جديدة في المنطقة»، في إشارة إلى التوتر القائم مع إيران في مضيق هرمز، بين الخليج والمحيط الهندي، مشيراً إلى أكثر من «300» حادث سنوياً بين القوات الإيرانية وسفن عسكرية أميركية تعبر مضيق هرمز، «10 إلى 15 في المئة» منها «غير مهني» أو «خطير». وختم قائلاً إنَّ «إيران تهدف إلى أن تصبح القوة المهيمنة» في الشرق الأوسط
.