نُحِّيت الملفّات الداخلية بكلّ تعقيداتها جانباً، وأُعطيت إجازة موقتة حتى مطلع نيسان، الذي يبدو أنه شهر الحسم والاختيار بين الاستمرار في إنتاج السلبيات، وبين الذهاب الى الإيجابيات وفي مقدمها توليد قانون الانتخاب الموعود. فيما انشَدّت الحواس اللبنانية كلها نحو القمة العربية في الاردن، أملاً في أن تزرع الأمل في سماء العرب في إمكانية تقريب المسافات وإعادة مدّ الجسور في ما بينهم.
وبَدا جَليّاً انّ القمة جالت على الهموم والشجون العربية، بنبرة هادئة وموضوعية بلا تشنّجات، وكان للبنان ما أراد من القمة، التي خَصّته في بيانها الختامي بحَيّز مهم للإعراب عن «وقوفها الى جانبه والتضامن الكامل معه وتوفير الدعم السياسي والاقتصادي له، ولحكومته ولكافة مؤسساته الدستورية، بما يحفظ وحدته الوطنية وأمنه واستقراره».

وأكدت القمة على «سيادة لبنان على كامل أراضيه، وحق اللبنانيين في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية والجزء اللبناني من بلدة الغجر، وحقهم في مقاومة أيّ اعتداء بالوسائل المشروعة والتأكيد على أهمية وضرورة التفريق بين الارهاب والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال الاسرائيلي، التي هي حق أقَرّته المواثيق الدولية ومبادىء القانون الدولي وعدم اعتبار العمل المقاوم عملاً إرهابياً».

وإذ دانت الاعمال الارهابية والتحركات المسلحة والتفجيرات الارهابية التي استهدفت عدداً من المناطق اللبنانية، أشادت بـ«الدور الوطني الذي يقوم به الجيش اللبناني والقوى الامنية اللبنانية في صَون الاستقرار والسلم الاهلي»، وشدّدت على ضرورة الحفاظ على الصيغة اللبنانية التعددية الفريدة القائمة على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وعلى دعم المؤسسات الدستورية اللبنانية في المضي بالالتزام بأحكام الدستور لجهة رفض التوطين والتمسّك بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم.

المشهد في القمة

في قلب المشهد العربي الذي عكسته القمة العربية خلال اجتماعها في الاردن، أمس، أبرَزت خطابات القادة العرب المخاطر التي تتهدّد الأمّة، وأوّلها الارهاب الذي يتهدّد كل المجتمعات العربية، كذلك الاوجاع التي تعصف من خاصرته السورية كما من اليمن والعراق.

وامّا الشقيق الأصغر لبنان فبَدا في موقعه معبراً عن نفسه كنقطة جَمع بين العرب، وموجّهاً البوصلة الى المكامن الحقيقية لتلك المخاطر وسبل درئها ومواجهتها.

وإنْ تَعثّر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على باب القمة، فإنه لم يتعثّر في رسم صورة الوضع العربي المتعثّر. فقد قدّم كلمة غير تقليدية، وجدانية في الشكل، إنما كانت سياسية بامتياز في المضمون.

تفادى الوقوع في الخلافات اللبنانية من جهة، وفي الصراعات العربية والاقليمية من جهة أخرى، ونجح في قلب التقليد السابق؛ حيث كان العرب يتوجهون بنداءات نحو لبنان، فإذا برئيس لبنان هذه المرة هو من يوجّه النداء للعرب لوَقف خلافاتهم.

جاءت كلمة عون عمومية، حَلّق فيها فوق القضايا الاساسية من دون ان يهبط في ايّ منخفض جوي او فجوة أرضية. لكنّ ذلك لم يمنعه من محاولة إسقاط التجربة الحوارية اللبنانية على العرب، وإطلاق مبادرة رَمى من خلالها الى فتح حوار في ما بينهم لحلّ مشكلاتهم بعيداً من العنف.

وكان اللافت في كلمة رئيس الجمهورية أنها توجّهت الى الانظمة والشعوب العربية، فدعا الى وقف الحروب لأنها اصبحت عبثية، والى عدم تدخل ايّ دولة في شؤون دولة عربية اخرى بحيث تختار كل دولة نظامها.

كما توجّه الى جامعة الدول العربية، فدعاها الى الخروج من نومها العميق لتتمكن من تأدية الدور الذي من أجله أُنشِئت، وهو لَمّ الشمل العربي ذلك انّ الموقف ـ الطرف الذي اتخذته الجامعة منذ بدء الثورات في عدد من الدول العربية عَطّل دورها كوسيط او كمرجعية جامعة، ما جعل مرجعيات دولية وإقليمية غيرها تقوم بالدور.

ولعلّ اللافت للانتباه في كلمة الرئيس عون هو انّ دعوته الى لَم الشمل العربي تنطوي على دعوة بطريقة غير مباشرة الى إعادة سوريا وكل جهة عربية مُقصَاة، الى الجامعة لكي تتمكن من القيام بدورها. وامّا الأساس في ما تقدّم، فهو انّ هذه «المواقف العربية» لرئيس الجمهورية تفترض تجاوباً عربياً معها لئلّا تبقى صوتاً صارخاً في الصحراء.

امّا على الصعيد اللبناني فتجَنّب رئيس الجمهورية إثارة ايّ عناوين ساخنة او محل إشكال، فلم يقارب في كلمته «حزب الله» ودوره في سوريا لئلّا تتحول كلمته الجامعة في الاردن، مصدر خلاف في لبنان مثلما حصل لدى زيارته مصر.

غير انّ الرئيس عون طرح صراحة مرة أخرى معاناة النازحين السوريين بسبب نزوحهم ومعاناة لبنان بسبب وجود النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين بهذه الأعداد الهائلة (نحو نصف سكان لبنان)، فدعا الدول العربية من خلال قادَتها الى السير بمشروع إعادة النازحين السوريين الى مناطق آمنة في سوريا.

ولذلك لاحظت مصادر سياسية أنها المرة الاولى التي لا يطلب فيها لبنان مساعدات مالية وكأنه يقول للعرب لا نريد مالاً لتوطين النازحين إنما نريد مشروعاً لإعادتهم الى بلادهم حفاظاً على وحدة سوريا وسلامة للبنان.

وفي النهاية أتت كلمة عون مخيّبة لآمال الذين كانوا يراهنون أنه سيتكلم كرئيس لفريق لبناني، لا كرئيس لكلّ لبنان.

وأمّا في الجانب المتصل بـ«الرسالة الخماسية» التي بعث بها رؤساء الجمهورية والحكومة السابقون الى قمة عمان، فيبدو انها لم تفتح. فيما توقّف متابعون لأعمال القمة من الجانب اللبناني أمام مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي اصطحب معه الى الرياض رئيس الحكومة سعد الحريري، بعد مضيّ وقت طويل لم يقم به الأخير بزيارة رسمية الى المملكة. واذا كانت ثمّة من قرأ في الرسالة الخماسية محاولة إحراج للحريري، فإنّ مبادرة الملك سلمان فيها من المغازي والمعاني الكثير الكثير.

تجدر الاشارة الى انّ عون كان قد التقى، على هامش اعمال القمة، العاهل السعودي قبل مغادرته الاردن، وكان عرض سريع للعلاقات الثنائية اللبنانية- السعودية والتطورات التي تشهدها المنطقة.

وقد كان لكلمة رئيس الجمهورية في القمة صدى إيجابياً في الداخل اللبناني، ووصفها مرجع سياسي كبير لـ«الجمهورية» بأنها كلمة بحجم المرحلة.

فنيش لـ«الجمهورية»

وبَدا «حزب الله» أكثر المرتاحين والمرحّبين بكلمة عون، ونظر اليها بتقدير كبير، وقد عبّر عن ذلك الوزير محمد فنيش بقوله لـ«الجمهورية»: «لقد بَدا رئيس الجمهورية في القمة أكثر حرصاً على لَمّ الشمل العربي واهتمام العرب بقضاياهم الاساسية، ومنع التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهم البعض، ووقف الاحتراب».

وأشار الى انّ خطاب عون يحوي ضمناً اشارة الى مسؤولية بعض الدول العربية عن الحروب القائمة في العالم العربي، إذ لا يكفي فقط أن نلقي المسؤولية على قوى خارجية وتُحرَّف الحقائق.

وقال: أكّد في خطابه دور لبنان الجامع والمدافع والحريص على قضايا العرب وجمع كلمتهم، ليس كالبعض الذي يريد ان يجعل من خلافاتنا الداخلية سبباً للتدخلات العربية بالخلافات العربية وبداخل لبنان، بما يجعل لبنان ساحة. إذ أمام هذا الحرص نرى في المقابل بعض من كان في موقع السلطة سابقاً يسعى، عبر إيحاءات لا اعرف من أين، لجَعل لبنان ساحة مُتلقّية للخلافات العربية.

أضاف: لقد بَدا رئيس الجمهورية في خطابه امام القمة، في موقع المسؤول، وموقع رجل الدولة وفي موقع لائق به ولائق بلبنان وبنظرته الى دوره على مستوى المنطقة وعلى مستوى القمة العربية.

فهذا الموقف الذي عبّر عنه يعكس الواقع اللبناني القائم على التفاهم السياسي الذي يبدو أنه مُزعج للبعض، لأنّ هذا البعض مُتضرّر من هذا التوافق، الذي يَترسّخ أكثر فأكثر، وتتأتى عنه الكثير من النتائج الايجابية على صعيد بعض الاستحقاقات، ويبدو انّ هذا البعض المُتضرّر يريد التشويش والعرقلة.

وختم: هذا موقف لا يعكس فقط موقف رئيس الجمهورية، بل يعكس ايضاً حتى موقف رئيس الحكومة المُشارك في القمة، وكذلك كل الفرقاء الممثّلين في الحكومة.

«14 آذار»

من جهته، قال مصدر قيادي في ١٤ آذار لـ«الجمهورية» إنّ خطاب رئيس الجمهورية أمام القمة العربية «يبقى من دون مفاعيل سياسية. فالدولة التي تحتاج الى وسطاء للجمع بين مكوّناتها لا يمكن ان تؤدي دور الوسيط بين الدول».

وأضاف: «انّ الدول العربية تعرف تماما أنّ لبنان ليس سيّد قراره، وانّ ايران تعتبره جزءاً من الدول التي لها فيها وعليها نفوذ كبير، وانّ قرار المؤسسات الدستورية فيه خاضع لتأثير سلاح «حزب الله».

واعتبر المصدر «انّ المخرج الذي اعتمده رئيس الجمهورية بطرح «مبادرة حوارية» بين العرب للتفَلّت من اتخاذ موقف حاسم من طبيعة الصراع لا يُحاكي جوهر البحث، ذلك انّ الدول العربية تعتبر انّ المشكلة هي عربية - إيرانية في حين انّ عون قارَب المشكلة من زاوية خلافات عربية - عربية».

وختم المصدر: «انّ الموقف اللبناني الرسمي، الذي يسوّق له أركان السلطة كإنجاز، هو بالمفهوم السياسي والديبلوماسي موقف إنشائي خارج عن الموضوع».