تمكن الرئيس ميشال عون عبر خطابه «المتزن» امام القمة العربية في الاردن من القفز فوق خطوط التوتر العالي التي تمتد من المحيط الى الخليج، ونجح في ضخ قليل من «ملح الحياة» في البحر الميت.
حاذر عون الانزلاق الى الرمال المتحركة التي تتخبط فيها المنطقة وتجنب الخوض في صراع المحاور المشتعلة، مستعينا بـ «ملائكة» الثوابت التي لا خلاف حولها على «شياطين» التفاصيل، وصادحا بصوت الوجدان في أودية العرب السحيقة، لعله يوقظ «الضمير الغائب».
وخلافا لما كان يتوقعه البعض، لم يسترسل «الجنرال» في التعبير عن عواطفه السياسية المعروفة، بل هو بدا في كلامه «أبويا»، يحاول تغليب صوت العقل على دوي المدافع، ويستخدم منطق «الحكمة» بدل قسوة «المحاكمة».
كان واضحا ان رئيس الجمهورية أراد ان يراعي قدر الامكان التوازنات اللبنانية المرهفة، والحساسيات العربية المفرطة، فأمسك بقلمه من الوسط وعبر من سطر الى آخر فوق حبل رفيع، لا يحتمل دعسة ناقصة او حمولة زائدة، إنما من دون ان يسجل على نفسه في الوقت ذاته انه تنازل عن خيار او قناعة، لارضاء هذا او ذاك.
وهذا الحرص من عون على تفكيك الصواعق السياسية بدل تفجيرها، لم يأخذه الى «الحياد السلبي» الذي لا لون له ولا نكهة، بل هو أطلق ما يشبه المبادرة الهادفة الى لمّ الشمل المبعثر ومعالجة خلافات العرب بالحوار، في نوع من الحنين لإحدى وظائف لبنان السابقة وهي صناعة الجسور.
تحدى عون الواقع الداخلي، كما تعقيدات المنطقة، وتطوع لتأدية دور الوسيط او الحَكَم بين المتصارعين، مستفيدا من خبرة لبنان في الحروب العبثية ليعمم العبرة على العرب المنقسمين، ومنطلقا من التخصص في مجال «طاولة الحوار» ليدعوهم الى الجلوس حولها واستعمال طاقتها الايجابية في تبريد الساحات الساخنة.
صحيح، ان حاجة اللبنانيين الى اكثر من سنتين لانتخاب رئيس الجمهورية، واخفاقهم حتى الآن في التوافق على قانون للانتخابات النيابية، يشكلان نقطة ضعف في «السيرة الذاتية»، لكن ذلك لا يقلل من شأن النصيحة التي وجهها عون الى نظرائه، وهو الذي خاض العديد من الحروب واختبر كلفتها التي تظل أقسى بكثير من فاتورة التسويات مهما كانت صعبة.
لقد قدم عون نفسه أمس باعتباره جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة كما يصوره خصومه، ليريح بذلك الداخل والخارج على حد سواء.
وليس صعبا الاستنتاج ان خطاب رئيس الجمهورية امام القمة العربية أخذ بعين الاعتبار مقتضيات التفاهم او التناغم مع الرئيس سعد الحريري الذي كان قد تمنى على عون تجنب المواقف التي من شأنها ان تنتج حساسيات، سواء محلية ام خليجية.
ويبدو ان الجنرال مهتم بتحصين العلاقة مع رئيس الحكومة وملاقاته في منتصف الطريق، خصوصا ان الحريري أعطى حتى الآن العديد من الاشارات حول رغبته في التعاون مع رئيس الجمهورية وعدم الاصطدام به.
وعليه، فان الرجلين التقيا على ضرورة السعي الى انجاح تجربة التعايش بينهما، مع ما يتطلبه ذلك من مرونة متبادلة في المساحات التي تحتمل تدوير الزوايا، وبالتالي فان عون لم يكن في صدد احراج الحريري امام ممثلي دول الخليج، لاسيما الملك السعودي الذي اصطحب معه رئيس «تيار المستقبل» في طريق العودة الى السعودية.
وبقدر ما شكلت «همزة الوصل» محور خطاب عون في مقاربته للانقسامات العربية، ظهر «الجنرال» صريحا ومباشرا في تعامله مع ملف النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين الى لبنان، محذرا من ان هؤلاء أصبحوا يعادلون نصف عدد سكانه بكل ما يعنيه ذلك من أعباء ضخمة على دولة صغيرة المساحة وقليلة الموارد، الامر الذي يستوجب تأمين عودتهم الى ديارهم، ويُرتب حتى ذلك الحين مسؤوليات وواجبات على الانظمة العربية التي كان بعضها شريكا في انتاج هذه الازمة الانسانية.
سليمان
ولكن... الى اي حد عطل خطاب عون مفعول رسالة «الرؤساء الخمسة» السابقين الى القمة، وهل يشعر الموقعون عليها بأنهم أخطأوا؟
يقول الرئيس ميشال سليمان لـ «الديار» ان الضجة التي أثيرت حول الرسالة لا تعدو كونها زوبعة في فنجان، لافتا الانتباه الى ان جوهرها مستوحى أصلا من مضمون نقاشات طاولة الحوار التي كان يترأسها، خصوصا لجهة اعلان بعبدا الذي وافق عليه العماد ميشال عون والرئيس نبيه بري.
ويستغرب سليمان الترويج ان الرسالة تستهدف «حزب الله»، مشيرا الى انها لم تأت على سيرة الحزب، بل اتخذت موقفا مبدئيا من مسألة السلاح غير الشرعي، ومتسائلا: أليس السلاح الفلسطيني هو غير شرعي ايضا؟
وينفي سليمان وجود نية بالتشويش على رئيس الجمهورية، مؤكدا ان «هدفنا كان ضم صوتنا الى صوته امام القمة، والدفع في اتجاه حث العرب على المزيد من التضامن مع لبنان ضد اسرائيل والارهاب، ودعما للقرار 1701 وإعلان بعبدا، الى جانب مساندتنا في ملف النازحين السوريين».
ويشدد سليمان على ان الرسالة صبت في خانة تحصين موقف لبنان وموقعه وحماية مصالحه وثوابته، وصولا الى محاولة احتواء مفاعيل الاستياء العربي من بعض المواقف الرسمية التي صدرت مؤخرا.
ويضيف: المفارقة، ان معظم الذين ينتقدوننا سبق لهم ان وجهوا بدورهم رسائل الى محافل دولية وعربية، مع فارق اساسي بين الماضي والحاضر وهو ان رسالتنا تتناغم مع المصلحة الوطنية، وليس العكس كما حصل عندما ذهب غيرنا الى واشنطن.
وعن تعليقه على وصف البعض الرسالة الخماسية بانها خطيئة وطنية، يقول سليمان: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر..
وعما إذا كانت الرياض قد حرّضت على توجيه الرسالة، يؤكد سليمان ان «السعودية ما معها خبر»، والامر أبسط بكثير مما يتخيله البعض، «ومن يتهمنا بالارتهان للخارج ننصحه بان يراجع حساباته، واللبنانيون يعرفون من المرتهن حقا ومن ليس كذلك».
السنيورة
اما الرئيس فؤاد السنيورة فابلغ «الديار» ان الاتهامات التي وُجهت الى موقعي الرسالة هي معيبة، وتعكس عجز أصحابها، قائلا: نحن لسنا في دولة توتاليتارية ومن حقنا ان نبدي رأينا في مسائل تتصل بمصير وطننا، علما انها ليست المرة الاولى التي يحصل فيها امر من هذا النوع، ولا بأس في لفت الانتباه الى ان العماد عون ذهب الى واشنطن من أجل الدفع في اتجاه استصدار القرار 1559.
ويشدد السنيورة على ان الرسالة لم تتضمن تسمية لـ «حزب الله» او ايران، «وأردنا منها تحديد البوصلة، وتقوية موقف الدولة لا إضعافه»، معتبرا ان من يجب ان يحكم عليها ضمير الناس.
وردا على سؤال عما إذا كانت الرسالة موحى بها من الخارج، يجيب السنيورة: افضل رد هو المثل الشعبي القائل «عابوا على التفاح، فقالوا له يا أحمر الخدين». ويتابع: لم نستشر أحدا في شأن الرسالة ولم يعرف بها مسبقا أحد.
ويؤكد السنيورة انه وقّع الرسالة بصفته الشخصية كرئيس سابق للحكومة، «وبالتالي فان موقفي لا يلزم تيار المستقبل او كتلته النيابية».
وبالنسبة الى رأيه في خطاب عون في القمة العربية، لاحظ السنيورة انه بقي ضمن العموميات ولم يدخل في التفاصيل، «وربما تكون هذه وسيلة لتفادي الاحراج والخروج من المأزق، كمن يقف على سطح ناطحة سحاب ويروي ما يشاهده».