في زيارته الأخيرة للبنان، عرض الرئيس الفلسطيني محمود عباس على الحكومة اللبنانية، للمرّة الأولى، وجدّياً، تولّي أمن المخيمات الفلسطينية في لبنان، ولا سيما منها مخيم عين الحلوة. فسلاح المخيمات الذي لطالما تمسكت به القوى الفلسطينية، تحوَّل عبئاً ثقيلاً على أصحابه. وخير دليل هو شريعة الغاب في بعض أحياء عين الحلوة.
من المفارقات أن يرفض لبنان، خصوصاً في عهد الرئيس ميشال عون، عرضاً فلسطينياً من هذا النوع. فليس سهلاً أن يأخذ لبنان على عاتقه كرة نار عجز الفلسطينيون أنفسُهم عن إطفائها. فالأمر لا يخلو من المخاطرة بإحراق الأصابع. لذلك، فضّل لبنان استمرار أسلوب المعالجة «عن بُعد»، أي بـ«الريموت كونترول»، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
تلقّى لبنان من السلطة الفلسطينية والفصائل الأساسية ضمانات بالتعاون لتطهير المخيم. وتقتضي آلية الحل أن يتكفّل الفلسطينيون بضبط أمن المخيم من خلال إعادة تشكيل القوة الأمنية المشتركة ولجنة التنسيق المشتركة، وأن يتم التعاون مع السلطات اللبنانية لإنهاء الحالات الشاذة، كالخلايا الإرهابية وإخراج المطلوبين.
والأبرز هم اللبنانيون الذين وعدت الفصائل بإخراجهم من المخيم وتسليمهم للقضاء اللبناني لمحاكمتهم بطريقة شفافة ومن دون إبطاء. وفي تقدير المصادر الفلسطينية أنّ عدد المطلوبين اللبنانيين الذين يختبئون في عين الحلوة يقارب الـ20، فيما يتحدث الجانب اللبناني عن عدد يفوق الضعفين.
ولا يتعلّق الأمر فقط بالمتهمين بالضلوع في أعمال إرهابية والاعتداء على الجيش والقوى الأمنية، كشادي المولوي ومناصري الشيخ أحمد الأسير، بل يتجاوزهم الأمر إلى «الزعران» المطلوبين بجرائم مختلفة، والذين انخرطوا مع الإرهابيين في «وحدة الحال»!
ويُضاف إلى هؤلاء عشرات الإرهابيين من جنسيات فلسطينية وأخرى مختلفة، وعلى رأسهم هيثم الشعبي وبلال بدر وتوفيق طه وأسامة الشهابي. وهؤلاء يجب أن يسلّموا أنفسهم إلى السلطات اللبنانية، إذا لم يخرجوا إلى بيئات أخرى تأويهم، خارج لبنان، في سوريا أو العراق أو سواهما من بلدان في المنطقة.
ويُفترض أن يتمّ التعاطي مع الذين يسلّمون أنفسهم وفق النموذج الذي شهده المخيم في الصيف الفائت، عندما قام عدد من أقرباء المطلوبين الكبار، اللبنانيين والفلسطينيين (كشقيق فضل شاكر وشقيقي بلال بدر) بتسليم أنفسهم للقضاء بلا شروط مسبقة. فليست هناك أيّ صفقة بين هؤلاء والجيش اللبناني الذي اضطلع بدور مهم في العملية من خلال مديرية مخابراته في الجنوب. لكنّ القضاء أخذ على عاتقه الإسراع في إجراء محاكمة عادلة.
ويقود المفاوضات، بتكليف من الرئيس الفلسطيني، عضو اللجنة المركزية في حركة «فتح»، المسؤول عن الساحة اللبنانية، عزّام الأحمد الذي يتحرّك في لبنان على المستويَين السياسي والأمني.
والاجتماع الأبرز هو الذي رعاه المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في منزله، وضم عن «فتح» الأحمد والسفير الفلسطيني أشرف دبّور وأمين سر قيادة حركة «فتح» في لبنان فتحي أبو العردات، وعن حركة «حماس»، نائب رئيس المكتب السياسي موسى أبو مرزوق وممثل الحركة في لبنان علي بركة. وأرسى هذا الاجتماع أسس التعاون بين الفصيلين الفلسطينيين الأساسيين، ما يؤمّن الغطاء للإجراءات الأمنية.
لكن ما تواجهه الخطة الفلسطينية في عين الحلوة هو التحالف المفترض بين المتضرّرين. فالإرهابيون اللبنانيون والفلسطينيون والمتعددو الجنسيات، الذين جعلوا من بعض أحياء المخيم أوكاراً لعملهم، سيواجهون خطة «فتح»- «حماس»، إذا شعروا بأنّ مصيرهم بات على المحك. والمواجهة هناك قد تكون مكلفة لجهة الخسائر البشرية، لأنّ المخيم يتميّز بكثافته السكانية.
لذلك، سيحاول الجانب اللبناني و»فتح» و»حماس»، كل من موقعه وانطلاقاً من طبيعة علاقاته مع القوى الإقليمية التي «تمون» عادة على القوى المتطرفة، أن يوفِّر التغطية لعملية «التنظيف الأمني»، بحيث لا تكون لها عواقب وأكلاف يصعب تحمّلها. وهذا ما دفع الأمين العام لـ»التنظيم الشعبي الناصري» أسامة سعد إلى القول: «لا نخاف من مخيم عين الحلوة بل نخاف على المدنيين فيه».
السياق السياسي الإقليمي الذي تجري فيه العملية الأمنية الحالية في عين الحلوة هو إياه الذي ساد في خلال معركة عبرا، في صيف 2013. في تلك الفترة، بدأت مرحلة التخلي الإقليمي عن «داعش» وامتداداتها. ورفع بعض القوى الخارجية غطاءه عن الشيخ أحمد الأسير، فـ»وقع في أسر حركته».
اليوم، تشهد المرحلة فصولاً واسعة من نهايات «داعش»، على الأرجح، في سوريا والعراق وسواهما. والتقارير الواردة من مصادر إسرائيلية عن احتمال لجوء «داعش» إلى صيدا وطرابلس، تعويضاً لخسائرها في هذين البلدين تحمل كثيراً من الخبث، ما يدفع القوى اللبنانية والفلسطينية إلى اتخاذ الإجراءات العاجلة.
وثمّة دعم أميركي وغربي واضح للبنان في هذه المواجهة. فممنوع على «داعش» أو أيّ تنظيم رديف السيطرة على أيّ بقعة من لبنان، لا على الحدود الشرقية ولا في الداخل.
فهل تكون خاتمة أحزان عين الحلوة؟ أم هي جولة أخرى ستليها جولات؟