أخلى تنظيم داعش، أخيرا، مناطق واسعة في جنوب شرقي سوريا والقلمون الشرقي، موجهاً قواته باتجاه البادية السورية، حيث تخوض قوات المعارضة معارك ضده، بموازاة استكمال انسحاباته من قرى ريف حلب الشرقي، حيث يخوض النظام تلك الهجمات، ما يشير إلى أن التنظيم ينفذ إعادة تموضع في سوريا، بالنظر إلى أن بعض المناطق التي انسحب منها، لم تشهد عمليات عسكرية عليه، وتطرح أسئلة عن مرحلة ما بعد الرقة.
 

ويحول التنظيم المتطرف قواته باتجاه البادية السورية التي تمتد من جنوب الرقة شمالاً، باتجاه ريف حماة الشرقي وريف حمص الشرقي وريف دمشق الشرقي وريف دير الزور المتصل بالحدود العراقية، والمنطقة الصحراوية العراقية. وتشير التقديرات إلى أن التنظيم يحاول اتخاذ هذه المنطقة الصحراوية ملاذا له، إثر انتكاساته في الرقة السورية، وريف حلب الشرقي، فضلاً عن الضربات الأردنية التي تلقاها في وقت سابق في جنوب شرقي البلاد، إلى جانب الانتكاسات في الموصل التي تقترب قوات الحكومة العراقية من استعادة السيطرة عليها.

وأعلنت المعارضة السورية أمس سيطرتها على بلدة بئر القصب الاستراتيجية شمال شرقي السويداء، التي تُعد أكبر معاقل تنظيم داعش في منطقة البادية المتاخمة لريف دمشق الشرقي، وذلك بعد يومين على انسحابه من منطقة اللجاة التي تربط محافظات درعا والسويداء وريف دمشق ببعضها في جنوب شرقي سوريا.

وتقاسمت قوات المعارضة مع النظام السوري السيطرة على المنطقة التي انسحب منها "داعش". ففي حين أعلنت المعارضة السيطرة على "بير قصب"، أكد ناشطون أن التنظيم انسحب من أكثر من 14 قرية ومنطقة شمال محافظة السويداء بشكل مفاجئ، حيث دخلت قوات النظام إلى هذه النقاط دون أي اشتباكات، وتقع على مشارف مطار "خلخلة" العسكري الخاضع لسيطرة النظام بريف السويداء.

بدوره، ذكر الإعلام الحربي التابع لحزب الله أن مسلحي "داعش" انسحبوا ليلاً من هذه القرى باتجاه الرقة، "لعجزهم عن تأمين المنطقة ولتعزيز مسلحي التنظيم هناك".

ويعد الانسحاب الكبير للتنظيم من هذه المناطق، الثاني عقب انسحابه من منطقة حوش حماد ومنطقة اللجاة شمال محافظة درعا بشكل مفاجئ، الأربعاء الماضي، التي أصبحت بالكامل تحت سيطرة الجيش الحر. وفي هذه الأثناء أعلنت قوات أحمد العبدو وجيش الإسلام وأسود الشرقية، عن إطلاق معركة "قادمون يا قلمون" لفك الحصار الكامل عنه، حيث تدور معارك عنيفة في محاور منطقة المحسا وجبل المنقورة بين المعارضة وتنظيم داعش.

وتتضافر المعلومات عن الانسحابات لتؤكد أن "إعادة التموضع" باتت أمراً محسوماً، لتطرح أسئلة أخرى عن "مرحلة ما بعد الرقة"، التي باتت على مسافة زمنية من طرد التنظيم منها. وفي هذا الصدد، قال مدير مركز الدراسات الكردية نواف خليل لـ"الشرق الأوسط"، إن هناك "استعدادات تتضمن مفاجآت على الصعيد العسكري لحسم المعركة"، وإن "داعش سيتفاجأ بالخطة العسكرية غير التقليدية والمباغتة"، وتتضمن أيضاً "إجراءات حاسمة لحماية المدنيين". لكنه تحدث عن مرحلة "ما بعد الرقة" بوصفها "ستؤثر على مجمل الوضع السوري سياسيا وعسكرياً". وعلى ضوء "إعادة التموضع"، قال خليل إن العمليات العسكرية "لن تتوقف بعد تحرير الرقة حتى لو نفذ خطة إعادة انتشار".

"وإعادة التموضع" في العلم العسكري، تعني أن الوضع الميداني والعملياتي لم يعد لصالح القوة العسكرية، فتجبر على إعادة تموضع لخوض معركة دفاعية، وانتشار جديد، بحسب ما يقول الخبير العسكري والباحث الاستراتيجي الأردني د. فايز الدويري، الذي يشير إلى أنه "لا بد من قراءة تحركات داعش التي تدفعه إلى إعادة التموضع"، موضحاً لـ"الشرق الأوسط": "مسرح العمليات بالنسبة له هو واحد في العراق وسوريا، بينما هو متعدد بالنسبة للأطراف التي تقاتله، ومجزأ، بحكم الواقع وبحكم القوات المشاركة في العمليات، إذ تجد جزئية متعلقة بـ(درع الفرات)، مستقلة، تؤثر وتتأثر، كذلك جزئية قوات سوريا الديمقراطية في الرقة وشمال شرقي سوريا، والنظام والميليشيات المتحالفة معه بريف حلب الشرقي، وقوات المعارضة السورية بينها (جيش الإسلام) في القلمون الشرقي بريف دمشق"، فضلاً عن خوضه معارك غير متكافئة في الموصل وتلعفر.

ويضيف الدويري: "يتم تقسيم مسارح العمليات بناء على القوات المشاركة بمحاربة التنظيم لأنها لا تنسق مع بعضها البعض"، مؤكداً أنه "حين نلقي نظرة على مسرح العمليات الرئيسي، نجد أنه سيجبر على إعادة تموضع قواته ليقلل من انتشارها أولاً، ويقصر خطوط الإمداد ثانياً، وحصر الجهد العسكري ثالثاً، ويستعد لخوض معركة الرقة التي ستكون آخر المعارك، بعد معركة الموصل".

ويؤكد الدويري أنه "ما بعد الرقة، هي مرحلة أخرى"، موضحاً أن استعادة الرقة السورية وتلعفر والموصل في العراق "لا تعني انتهاء التنظيم عسكرياً، بالنظر إلى أنه سيكون قد هُزم، لكنه سيعود إلى تطبيق الاستراتيجية المفضلة له وهي (سمكة الصحراء)، أي أنه سيذوب في بادية الشام وصحراء الأنبار ويستغل الطبيعة القاسية للمنطقة تحضيرا لشن حرب عصابات على كل من يعاديه".

وكان مقربون من إيران حذروا من أن تكون البادية السورية نقطة تجميع لتنظيم داعش، ثم أعلن رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي أن بلاده لن تتردد بضرب مواقع الإرهاب في دول الجوار كسوريا بعدما حصل على موافقة دمشق.

ويعتبر الدويري أن تصريح العبادي "ينطوي على مبالغة بقدرته على إرسال قوات إلى سوريا»، لكنه لم ينفِ أن يكون التصريح يتلاقى مع الرؤية الإيرانية، قائلاً: «لا يقوى العبادي على مواجهة قاسم سليماني".

وتعني "إعادة تموضع داعش"، عملياً أن التنظيم سيجد ملاذا آمناً في منطقة صحراوية غير مأهولة بالسكان، يتكيف معها، من غير أن ينتهي عسكرياً. وإذا كان الإرهاب قد بدّل جلده من "القاعدة" إلى "داعش"، وانتقل من مكان إلى آخر، يعرب الدويري عن خشيته من "أن نكون أمام (داعش) - 2 أكثر وحشية". وأوضح: "ثمة منطقة تتسم بفراغ سكاني، هي بادية الشام التي تبدأ من جنوب الرقة وصولا إلى البوكمال في شرق سوريا وعبوراً نحو الصحراء العراقية إلى أطراف الرمادي، قد تتحول لملاذ آمن يملأ فيها (داعش) الفراغ"، لافتاً إلى "إننا سنتحدث حينها عن مرحلة لاحقة لمحاولة تطهير الصحراء"، مشدداً على أنه "لا يمكن القضاء على تنظيم داعش إلا بحزمة من الخطوات، وليس بمقاربة عسكرية فحسب، تتضمن مقاربة سياسية واجتماعية ومواجهة الفكر بالفكر، كون المغذيات لظهور الإرهاب لا تزال أسبابها قائمة بسبب مشاكل الإقليم والظلم الواقع عليه".