الرئيس الاميركي دونالد ترامب رجل أخرق، لكنه لا يقل خِرقاً عن سلفيه الرئيسين رونالد ريغان وجورج بوش الابن، اللذين تخطيا ثقافتهما الضحلة وأكتفيا بغريزتهما القوية، وتمكنا من تغيير وجه أميركا ووجهة العالم بأسره، عندما أطلق أولهما موجة يمينية متطرفة ما زالت تجتاح الغرب حتى اليوم، وعندما شن الثاني حروباً عشوائية ما زالت نيرانها مشتعلة في الشرق كله.
لعل ترامب، الأمي السياسي، هو الوريث الشرعي لريغان وبوش وخلاصة تجربتهما المثيرة، فهو يسير على هديهما في السياسة كما في الأمن، ويحيط نفسه بفريق يوصف من قبل الاعلام الاميركي بأنه يضم ثلاثة من ألمع الرؤوس الاميركية، وزير الخارجية ريكس تيلرسون ، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الامن القومي هربرت ماكمستر، فضلا عن مجموعة أيديولوجية يمينية يقودها مستشاره الخاص ستيفن بانون ، لا تختلف في الجوهر عن "المحافظين الجدد" الذين كانت ولادتهم الفعلية في عهد ريغان في ثمانينات القرن الماضي. خلف هذه الادارة يقف الكونغرس ذو الغالبية الجمهورية الكاسحة، والجمهور المحافظ المتشدد الذي يبدي منذ الان إستعداداً لاي نداء يمكن ان يوجهه ترامب للخروج الى حرب او الى نزاع، حتى مع أقرب الحلفاء وأوثقهم مثل ألمانيا التي إتهمها الرئيس بأنها مدينة بمبالغ طائلة لحلف الاطلسي الذي حماها منذ نهاية الحرب العالمية حتى اليوم، او مع أشد الخصوم مثل الصين التي حملها مسؤولية تمرد كوريا الشمالية ولم يتورع عن التهديد باستخدام السلاح النووي ضد بيونغ يانغ..ولم يتردد بالامس في فرض عقوبات على 6 شركات صينية و8 رجال أعمال صينيين لتورطهم في برنامج إيران الصاروخي..هذا فضلا عن تأكيده أن العقوبات على روسيا لن ترفع طالما بقيت جزيرة القرم محتلة.
سلوك ترامب هو من جهة يعيد الى الاذهان أسلوب ريغان العدائي الذي دفع العالم بالفعل الى حافة حرب نووية، كانت السبب المباشر لإنهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي..ومن جهة أخرى يستلهم نموذج بوش الابن الذي أشعل، من دون تفكير او تخطيط، حرائق هائلة لم تخمد بعد في مختلف أنحاء العالم الاسلامي، ردا على هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001.
وليس من قبيل المبالغة القول ان ترامب يضع العالم في حالة تأهب قصوى، لمواجهة حرب كبرى، أو أزمة دولية معقدة، يرجح الجميع ان يتسبب بها الرئيس الاميركي وسلوكه الاستفزازي. حتى الان، ما زالت إدارة ترامب ترسل إشارات أكثر مما تصدر سياسات. فترة الضعف او الانكفاء التي تميزت بها سنوات الرئيس باراك أوباما الثماني إنتهت الى غير رجعة. ثمة نسخة مجددة من أميركا القوية، القائدة، الفظة، التي لا تأخذ في الاعتبار أياً من المواثيق والمعاهدات والتحالفات السابقة، ولا تقيم وزناً لأحد في العالم، خصماً كان او حليفاً او صديقاً. يمكن لأميركا هذه ان تصطدم بوقائع ومعطيات وموازين دولية لا تستطيع ان تتخطاها، لكن المؤكد انها تمضي قدما نحو إختبار جديد لموقعها ودورها العالمي.
التاريخ الاميركي يؤكد ، والخطاب الصادر من واشنطن يشي بان هذا الاختبار لن يكون مفيداً إلا اذا كان عسكرياً . لا يوحي ترامب بانه يمكن ان يكتفي بحصار او بعقوبات او بحملة سياسية على أي من الخصوم الذين أنتهزوا في السنوات الثماني الماضية فرصة الوهن الاميركي. ثمة لجوء حتمي الى القوة العسكرية الاميركية، التي زيدت ميزانيتها وأطلقت عملية تحديثها وتحررت من تجربة الغزو العراقي البائسة. ثمة تبرير مسبق يتم ترويجه الان للخيار العسكري، هو الاشد بداهة، حسب التعريف الامبريالي المبسط : الحرب بوصفها غنيمة كبرى، لا بكونها خسارة فادحة مثلما جرى في العراق.
أميركا تعيد قواتها الى العراق، وترسل وحدات الى سوريا، وتنشر قطعاً بحرية في مياه الخليج العربي واليمن، وتشدد الرقابة على لبنان. هي من علامات الحرب الاميركية المقبلة، التي لم يبقَ منها سوى السؤال: متى والى أين سيوجه الاميركيون صواريخهم؟ طالما أن الحملة على داعش يمكن ان تبدد الخرافة لكنها لن تنهي الاسطورة.