بعد وصول دونالد ترامب الى الرئاسة في الولايات المتحدة، بكل ما يمثله من «نزعة يمينية» حادة ومكشوفة، بدأت دول وقوى كثيرة في العالم تراجع حساباتها، إما في اتجاه التكيف مع الادارة الاميركية الجديدة، وإما نحو السعي الى تحسين شروط المواجهة ضدها.
ويؤكد العارفون ان ادارة ترامب تمزج في تركيبتها بين موروثات الماضي كحقبة رونالد ريغان، ونَفَس المحافظين، وبصمات عتاة المتعاطفين مع الصهيونية، وظلال البُعد الديني، ما يحوّل هذه «الخلطة» الى قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في اي لحظة ومكان، اذا لم يتم تفكيك صاعقها.
وفي لبنان، ربما يكون البعض قد أنعشه «أوكسيجين» ترامب، بشكل او بآخر، مراهنا في سره على استثمار «تهور» هذا الكاوبوي المتنكر بزي رجل الاعمال، لتصحيح التوازن مع الخصوم في الداخل والاقليم، في ما يشبه الحنين الى زمن الحضور الاميركي الواسع على الساحة اللبنانية.
لكن، لحسن الحظ ان الممسكين عمليا بزمام الامور انخرطوا في تسوية مركّبة، انطلقت مع انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية وتولي سعد الحريري رئاسة الحكومة، وبالتالي لم يعد سهلا التراجع عن مندرجات تلك التسوية، بمعزل عما إذا كان كل المنخرطين فيها مقتنعين بها ام مكرهين عليها.
اكثر من ذلك، لم يتردد الرئيس عون- بعد استلام ترامب مقاليد السلطة- في اطلاق مواقف داعمة للمقاومة ومعادية لاسرائيل، على الملأ وبالصوت والصورة، الامر الذي دفع العديد من الاوساط الغربية والاقليمية الى انتقاد طروحاته، واعتبارها مُخالفة لثوابت المجتمع الدولي ومحتوى القرار 1701.
بل ان بعض «المتخصصين» في التهويل و«الحرب النفسية» ابدوا خشيتهم من ان تؤدي سياسات رئيس الجمهورية الى وقف المساعدات الاميركية للدولة وجيشها، في وقت يواجه لبنان تحديات شتى.
وسط هذا المناخ الخارجي، زار الوزير جبران باسيل واشنطن الاسبوع الماضي، حيث شارك في اعمال مؤتمر التحالف الدولي لمحاربة «داعش» في مقر الخارجية الاميركية، والذي حضره ممثلون عن 68 دولة، من بينهم 55 وزير خارجية.
وبطبيعة الحال، استفاد باسيل من وجوده في العاصمة الاميركية للقاء عدد من المسؤولين في وزارتي «الخارجية» و«الدفاع» وجهاز «الامن القومي» اضافة الى اعضاء بارزين في الكونغرس. لم يحتج وزير الخارجية الى وقت طويل حتى يلتقط «راداره» الدبلوماسي «ذبذبات» الادارة المُحافظة، وبالتالي فهو لم يتأخر في استشعار حالة عدم الارتياح لدى المقربين من مراكز القرار والتأثير في الولايات المتحدة إزاء مواقف عون الاخيرة، فكان عليه ان يحمل «إبرته» ويباشر الحفر في «جبل» الاحكام المسبقة التي سبقته الى واشنطن.
وفي هذا السياق، أكد باسيل خلال لقاءاته المعلنة و«المستترة» ضرورة المحافظة على المساعدات الاميركية للبنان الذي يواجه الارهاب ويتحمل الحصة الكبرى من اعباء ملف النازحين السوريين. ويمكن القول، انه كان هناك تفهم من المعنيين لهذا الطرح، علما انه سبق لترامب ان أعلن عن عزمه تخفيض حجم المساعدات الخارجية الاجمالية بنسبة 27 في المئة تقريبا.
اما على صعيد قضية النازحين، فقد ابلغ باسيل الاميركيين موقفا واضحا، فحواه: انتم تريدون ان تبنوا جدارا فاصلا بينكم وبين المكسيك لوقف الهجرة الى بلادكم، لانكم تعتبرون انه لم يعد بمقدوركم تحمل هذا العبء، فكيف يمكن ان يكون الوضع بالنسبة الى لبنان الصغير الذي يستضيف على ارضه اعدادا هائلة من السوريين... ان الحل الوحيد والجذري لازمة النازحين يكمن في عودتهم الى وطنهم، ولا شيء غير ذلك.
وقد استنتج الزائر اللبناني وجود مقاربة اميركية مختلفة نسبيا لملف النازحين، تمثلت في ابداء تجاوب اوسع، من قبل، مع الخطاب اللبناني في هذا الصدد. وهذا ما يفسر ان سحب تعبير «العودة الطوعية» من التداول في مؤتمر واشنطن لم يتطلب الكثير من الوقت او الجهد.
وبالنسبة الى مواجهة خطر «داعش»، لمس باسيل ان هناك تصميما اميركيا، اشد من السابق، على محاربة التنظيم الارهابي، لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذا التصميم يبقى خاضعا للاختبار العملاني، قبل الحُكم النهائي عليه.
تحد آخر، واجه وزير الخارجية ويتعلق بإمكان رفع منسوب الضغوط المالية الاميركية على لبنان عموما، والقطاع المصرفي خصوصا، في اطار محاولة تضييق الخناق على «حزب الله» وايران. هنا، ركز باسيل على وجوب تحييد لبنان عن اي استهداف من هذا النوع وعدم زجه في معمعة «شد الحبال» بين واشنطن وطهران.
وعندما حضر «طيف» تصريحات عون المؤيدة للابقاء على سلاح المقاومة ما دام الجيش اللبناني ليس قادرا بعد على ان يتحمل، وحده، اعباء مواجهة المخاطر الاسرائيلية، برز عتب واعتراض من بعض الشخصيات الاميركية التي التقاها باسيل على كلام رئيس الجمهورية، فتوجه اليها وزير الخارجية بالسؤال: هل يمكنــكم منحنا ضمانات بألا تهاجمنا اسرائيل في المستقبل، وهل تعتقدون ان القرارات الدولية هي التي حررت الاراضي اللبنانية المحتلة؟
ثم تطرق باسيل الى دور المؤسسة العسكرية، قائلا: ان الجيش لا يأتمر الا بأوامر القيادة السياسية الرسمية، وهو صاحب عقيدة وطنية واضحة، ولم يسبق له ان أعطى سلاحه لأحد، ثم انه نجح ولا يزال في محاربة الارهاب، وإذا كانوا في المنطقة يتقاتلون ضد بعضهم، ففي لبنان نقاتل مع بعضنا الارهاب.
ولان الولايات المتحدة تدرك اهمية الدور الذي يؤديه الجيش في تصديه للجماعات التكفيرية، فلا قلق على مصير المساعدات العسكرية المفترض منحه اياها، وتفيد المعلومات انه سيستلم قريبا دبابات اميركية متطورة ونوعية لم يسبق له ان حصل عليها.
ولما كان بعض اللبنانيين من اصل اميركي يشغلون مواقع حيوية في المنظومة المؤسساتية للولايات المتحدة، فقد التقى باسيل ما يصح تسميتها بـ «الجالية السياسية» اللبنانية، التي تُمسك بمفاتيح العديد من الابواب في مجلسي النواب والشيوخ، كما التقى رموزا في «اللوبي المسيحي» اللبناني تحديدا.
والمفاجأة، ان وزير الخارجية سمع من بعض «المتشددين» الاميركيين و»المتحمسين» اللبنانيين دعوة الى استعادة امجاد الماضي المسيحي في لبنان، مصحوبة بإظهار الاستعداد للمساعدة و«العمل معاً» بغية تحقيق ذلك، مع تلميح الى ان بالامكان الاستفادة من لحظة تولي رئيس، كدونالد ترامب، قيادة الولايات المتحدة من اجل تسهيل المهمة.
ورد باسيل على هذا «العرض» بالتأكيد ان مصلحة المسيحيين تتحقق عبر انفتاحهم على شركائهم المسلمين من ضمن التوازن والشركة، وليس بالتصرف العدائي حيالهم، محذرا من خطورة الاستسلام لـ«الاسلاموفوبيا» ومنبها الى ان الرد على التطرف لا يكون بتطرف مثله، بل بتجذر المسيحيين في ارضهم ونيلهم حقوقهم، من دون الاستقواء او الاستعلاء على الآخرين.