عكست اطلالة وزير خارجية لبنان جبران باسيل، في مركز وودرو ويلسن في العاصمة الاميركية، إنحداراً غير مسبوق في الدبلوماسية اللبنانية. هذا ليس انتقاصا من شخص الوزير الكريم، فهو بدا هادئا، وتحدث بالانكليزية بشكل مقبول. لكن فحوى كلامه عكست ضحالة ثقافته، وكسل وزارته، وطغيان ثقافة الاستخفاف لدى اللبنانيين بذكاء العالم.
ضحالة ثقافة باسيل تجلّت في قوله ان لبنان يحارب تنظيم “الدولة الاسلامية” داعش منذ اكثر من مئة عام، وان هذه الحرب أجبرت ثلث اللبنانيين على الهجرة في العام 1915، فيما مات الثلث الثاني “تحت الحصار” في الحرب العالمية الاولى، والثلث الثالث هو الصامد في الارض اللبنانية.
والغرابة لا تكمن في ان في العام 1915 لم يكن داعش موجودا فحسب، بل في ان لبنان نفسه لم يولد حتى العام 1920. هذا يعني ان في مخيلة الوزير باسيل، حرب داعش على اللبنانيين هي تكملة لحرب متخيلة اخترعها مؤرخو لبنان من “الفينيقيين الجدد”، وهي حرب يفترض ان الحاكم التركي جمال باشا، المسلم المتطرف، شنّها ضد المسيحيين الاستقلاليين في لبنان وشركائهم المسلمين. طبعا لم يكن الحكم التركي اسلاميا متطرفا، بل عكس ذلك، اذ هو كان في سباق مع الزمن من اجل “تغريب” السلطنة، واستقدم الارساليات المسيحية، ورعى عملها وانتشارها، وكان في طليعتها “الكلية الانجيلية السورية”، التي بدّلت اسمها الى “الجامعة الاميركية في بيروت”، و”جامعة القديس يوسف”.
كذلك، لم يكن ضحايا جمال باشا، “الشهداء”، من المطالبين باستقلال لبنان، بل ان غالبهم — مسيحيين ومسلمين — كانوا من رواد العروبة، وذلك قبل ان يحتدم السباق بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني في المنطقة، ويلجأ كل منهما الى رعاية أشكال متنوعة من المشاريع القومية: اللبنانية والعلوية والدرزية والقومية السورية.
لكن في مخيلة الوزير باسيل، عقيدة داعش الاسلامية “قديمة” وتكره اللبنانيين، حتى قبل قيام لبنان، وهي اليوم تكره التعددية و“التعايش” بين “الاديان” الثمانية عشرة اللبنانية، حسب تسمية باسيل الانكليزية للطوائف اللبنانية.
ولأن الوزير باسيل من المؤمنين بالتعايش بين الأديان، فهو قال ان الحل الوحيد في سوريا يقضي ببقاء نظام علماني، وعودة اللاجئين السوريين الى بلادهم “حفاظا على التنوع” السوري. هذا التضارب في الافكار يطرح اسئلة حول مدى “الارتجال” في تصريحات باسيل اثناء اطلالته، فالتعايش اللبناني الذي يتباهى به، والتنوع السوري الذي يدعو لاستعادته، يتناقض مع العلمانية، التي يقدمها على انها الحل في سوريا.
ثم ينتقل باسيل للحديث حول لبنان، وهنا يظهر المزيد من الكسل في اداء الدبلوماسية اللبنانية. لا استعداد مسبقاً ولا نقاط كلام امام الوزير ليلتزم بها، بل مجرد ثرثرة وافكار متضاربة، وكأن السيد الوزير كان يخال نفسه في صالون في لبنان يدور فيه نقاش سياسي.
بعدما أصرّ باسيل ان سياسة لبنان الخارجية “الرسمية” (وهو اعتراف ضمني بازدواجية السياسة الخارجية اللبنانية بين رسمية وغير رسمية) هي النأي بالنفس عن الصراعات في المنطقة، ذكّره محاوره الأميركي ان “حزب الله” يقاتل في سوريا والعراق واليمن. في ردة فعله الاولية، قال باسيل بأنه لا يتكلم باسم “حزب الله” وان الأجدى سؤال الحزب نفسه. يبدو ان باسيل لم يفطن انه عندما يكون في واشنطن، فهو يتحدث باسم كل لبناني، وهو ما قاله المحاور، الذي توجه لباسيل بالقول انه عندما يقاتل حزب لبناني خارج لبنان، فان ذلك ينتقص من السيادة اللبنانية.
هنا، قرر باسيل الاطاحة بالسيادة اللبنانية بأكملها، وقال انه منذ اندلاع الحرب السورية، و”كل واحد” في لبنان يتدخل في سوريا، وهناك دول اخرى تتدخل، والموضوع معقّد وأكبر من حكومة لبنان، وعلى العالم بأكمله — لا لبنان وحده — التوصل الى حل في سوريا. فجأة، انهارت نظريات باسيل عن “النأي بالنفس” اللبناني، ونجاح جيش لبنان في مكافحة الارهاب بعدما انهارت جيوش الدول المجاورة، وكون لبنان شريك العالم في الحرب على الارهاب لأنه يخوضها منذ اكثر من قرن. فجأة، تحول باسيل من شريك في “التحالف الدولي” للحرب ضد داعش الى مجرد ضحية يستجدي العالم ايقاف الحرب السورية لأنها دفعت لبنانيين الى التورط بها، ولا سيادة لحكومة لبنان على هؤلاء اللبنانيين، ولا مقدرة لبنانية على استيعاب اللاجئين السوريين.
محاور أميركي بالكاد يفقه شؤون الشرق الأوسط ولبنان تغلّب على وزير خارجية لبنان، واجبره على الحاق ضحالته الثقافية والتاريخية بسلسلة من التناقضات في المواقف السياسية، و”التخبيص”، على قول اللبنانيين.