اتفقت مجموعات الناشطين المدنيين الداعية إلى تظاهرة الأحد 19 آذار (مارس) في وسط بيروت على رفض دعوة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى التفاوض حول المطالب المتعلقة بزيادة الضرائب والرسوم، واتفقت لاحقاً على الامتناع عن التنسيق في ما بينها وعلى أن يسير كل منها في طريقه.
يشير الاتفاقان إلى التشتت والفرقة بين المجموعات المدنية، وعجزها عن تحويل معاناة المواطنين من وضع اقتصادي مزر تهدده إجراءات الحكومة بالمزيد من التدهور، تحويلها إلى خطاب جامع لشرائح معترضة على نهج بات راسخاً في السياسات الحكومية اللبنانية من الإفقار المستمر وانعدام أي رؤية اقتصادية تستحق هذا الاسم، ويشيران أيضاً إلى دوران مكونات المجتمع المدني، منذ أعوام، في دائرة مغلقة من انعدام الفاعلية واقتصار التحركات على المناسبات وضآلة العدد والنفوذ خارج بعض الأوساط الهامشية.
الحالة البائسة لمجموعات المجتمع المدني (مع التحفظ على التسمية هذه) ترتكز على أسباب كثيرة، منها أن هذه المجموعات تسعى إلى الحلول مكان أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومهنية ووسائل إعلام استقالت من أداء مهماتها لأسباب شرحها يطول، والتحقت أو قدمت أوراق اعتمادها إلى نظام المحاصصة الطائفي.
تقتضي الدقة هنا القول إن القلة القليلة من الناشطين المدنيين هؤلاء تخوض مواجهة غير متكافئة مع نظام الزبائنية القائم على الفساد والإفساد من جهة، وعلى رشوة الجماعة الطائفية من ريوع الفساد وعائداته من جهة ثانية، وعلى التهويل وإرهاب الجماعة ذاتها من الآخر المستعد لافتراس الأعداء عند أول سانحة من جهة ثالثة.
لا يحوز النشطاء المدنيون شيئاً للتصدي للعنقاء الطائفية المثلثة الرؤوس هذه. فهم، في أحسن الأحوال وبعد استبعاد أحصنة طروادة الكثيرة العاملة بوعي أو من دونه لحساب الزعامات الطائفية، من صفوفهم، يشكلون «المجتمع النقيض» لذاك الذي أرست أسسه الدولة الطائفية. بيد أنه مجتمع منقسم على ذاته ولا يمثل أفراده أي مصلحة ملموسة ومادية للفئات المسحوقة والفقيرة التي يزعمون النطق باسمها، على عكس الجماعات الطائفية التي تمد سطوتها من السلاح إلى المدارس والمستشفيات والوظائف في الإدارة العامة... إلخ.
لا يكمن التناقض هنا بين «من يملك» وبين «من لا يملك» فحسب، بل يصل إلى نظرتين شديدتي التباين إلى معنى الدولة والمجتمع والسياسة والوظيفة العامة. إنه تناقض بين المواطن الذي لا تعريف ولا قيمة له خارج جماعته الطائفية وبين المواطن الفرد الذي يبحث عن حقوقه من دون الكيانات الوسطية بصفته عضواً شرعياً في مجتمع واع للفروقات بين الحقوق والواجبات ولحكم القانون ولقيم العدالة الاجتماعية. أي في دولة تستعيد الحق الحصري ليس في ممارسة العنف فحسب، بل أيضاً في إدارة توزيع الثروة وجباية الضرائب المستحقة والإشراف على المال العام.
تشخيص التناقض اللبناني البنيوي المذكور أعلاه والذي قدمه عدد من الكتاب والمفكرين اللبنانيين منذ سبعينات القرن الماضي، دخل بعد اندلاع الأزمة الوطنية في 2005 المستمرة إلى اليوم، طوراً جديداً على شكل استعصاء أفضى إلى شلل الحياة السياسية والاقتصادية فاقمته الحرب في سورية.
ظهور «المواطن اللبناني» في منأى من تعريفه الطائفي والجهوي ما زال مؤجلاً بمقدار التأجيل المقيد لظهور الدولة اللبنانية القادرة على حمل هذا الاسم في منأى، هي الأخرى، من أن تكون كونفدرالية كيانات سياسية متهادنة حيناً ومتناحرة أحياناً ومتفقة في كل حين على غرف الامتيازات والجوائز المجانية لأفرادها الفاسدين من مال اللبنانيين ومن ركام أحلامهم ومستقبلهم. «المواطن اللبناني» لم يُخترع بعد.