عندما كان الالسيد ياسين يروي كيف غيَّر اختصاصه استناداً إلى اهتماماته، متبعاً في ذلك خطى توفيق الحكيم (في الثلاثينات من القرن الماضي)، ومحمد مندور (في الأربعينات من القرن الماضي)، كنت أُجادِلُهُ بأنّ ذلك كان شجاعة فائقة أو تهوراً لا تُحمدُ عقباه. ولا يمكن القياس على الحكيم ومندور، لأنّ الزمان كان أفضل، والصعلكة الممتعة كانت أقل تكلفة (!). وكان رحمه الله يضحك ويقول: أنتم أزهريون محافظون يا رضوان، وعندما ذهبتَ إلى ألمانيا بعد العام 1967 كنت مثل سائر العرب قد سقطتَ في شباك الخوف، فصار همُّك وهمُّ سائر الممنوحين الحصول على الشهادة وحسب وربما من أجل عدم العودة إلى البلدان العربية، أما زمننا في الخمسينات ومطالع الستينات فقد كان زمان الانسياح العربي، والأحلام التي لا تنقضي، والآمال التي لا تخبو، والإمكانيات التي لا تُستنفد!
وعلى أي حال، فقد تحول السيد ياسين - وقد ذهب بمنحة إلى باريس مدتها ثلاث سنوات - بعد عامٍ ونصف إلى التخصص في «علم اجتماع الأدب». وهذا اختصاصٌ غامضٌ وقتها كان يقوده رولان بارت وكتّاب الرواية الجدد، وهو يطلُّ على سوسيولوجيا الثقافة، وعلم الاجتماع الثقافي. لكنّ جيلنا نحن الذين ذهبنا إلى مصر للدراسة بعد منتصف الستينات من القرن الماضي ما عرفنا السيد ياسين أول ما عرفناه إلاّ من كتابه عن «الشخصية العربية» الصادر في مطلع السبعينات من القرن الماضي. ودائماً وفي عودة إلى عقدة العام 1967 فقد تكاثرت «الدراسات» وقتها عن العجز العربي، والعُقد التي يولد العربي مزوَّداً بها، وكيف يحبط انحطاط المجتمعات العربية جهود الأفراد النوادر، وهذا إلى
الديكتاتوريات التي تسببت في هزيمة العام 1967 بسبب التخلف الفكري والعلمي والسياسي. وقد ذهب رفاييل باتاي الإسرائيلي في كتابه عن «العقلية العربية» إلى أنّ هذا الانحطاط المتجلّي في سِماتٍ كثيرة له أبعاد تاريخية وحاضرة في العقل العربي والتصرفات. وسط ذاك السيل من الرؤى السلبية (التي تشبه ما يقال اليوم بشأن الإسلام) جاء كتاب السيد ياسين، وبهذا المنهج الجديد في التحليل الثقافي للشخصية، ليس ليطمئن ولا ليرد؛ بل ليوضح معنى الهوية والانتماء، والأبعاد الواقعية والأسطورية للشخصية القومية، وأن «شخصيات» الأمم والشعوب تتطور عبر حِقَبٍ طويلة، ولا يمكن «إنتاجها» لدى الجماعات بالذات عبر «الهندسة الوراثية» والعنصريات التي حاولها هتلر، ويحاولها الصهاينة في إسرائيل بعد قيام دولتهم على أرض فلسطين.
في كتاب السيد ياسين السالف الذكر، ما عرفنا منهجاً جديداً في قراءة الشخصية والشخصية القومية وحسْب؛ بل عرفنا أيضاً مصادر وقراءات ودراسات في الأمم والقوميات والشعوب، تتفلت من الرؤية الماركسية، والرؤية القومية الرومانسية، وتخرج من الآيديولوجيا إلى الثقافة. وقد صار ذلك هو الشأن في كتابات ودراسات السيد ياسين، وهو الأمر الذي تفرد به بين أبناء جيله. فرغم عمله في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ«الأهرام» لثلاثين عاماً وأكثر، ما كتب في العلوم السياسية البحتة، ولا أخضع دراساته لآيديولوجيا مسبقة مهما كانت الضغوط تستدعي ذلك. وإنما أصرَّ دائماً على العرض والرأي الجديد والمتقدم للدراسات بالفرنسية والإنجليزية في سائر الموضوعات المطروحة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ودائماً بتركيزٍ على المعاني الثقافية أو السياقات الثقافية للظواهر والموضوعات، وسواء أكانت سياسية أم علمية أم استراتيجية أم اجتماعية (ثقافية) بحتة.
وما كان الأستاذ السيد ياسين يميل للأُطروحات الشاملة. وقد أخذ ذلك على حسن حنفي والجابري وأركون. كما لم يكن يميل إلى تفسير الظواهر بالعودة إلى التاريخ أو الأصول. لكنه وبعد طول تردد، وبسبب امتداد التأزم العربي والإسلامي وتفاقمه، راح يقرأ قراءة نقدية الأطروحات الشاملة لأصحاب رؤى العقل العربي والعقل الإسلامي، وثقافة العرفان والبرهان والبيان، وأنثروبولوجيا الثقافة والدين، وعقدة الدين والدولة. وقد استوقفته لبرهة أُطروحات أركون، ثم ما لبث أن اعتبرها خواطر ومخططات هي نتاج قراءات وليست نتاج فهمٍ معينٍ للنص الإسلامي أو للسياقات التاريخية والحاضرة. فهو المتعود على منهج «سوسيولوجيا الأفكار» والتحليل الثقافي لها، ما فتنته التاريخيات ولا التاريخانيات اليسارية أو اليمينية.
في السنوات العشر الأخيرة، انصرف السيد ياسين إلى قراءة ظواهر العولمة أو وجوه تأثيراتها في الثقافة والسياسة. وقد نبهنا من خلال قراءاته الكثيفة والمتتابعة لكتبٍ ودراساتٍ منتقاة إلى ثلاث ظواهر اعتبرها عولمية أو من نتائج العولمة: عودة الدين، والشعبويات، والفوات الهائل في الأنظمة السياسية العربية العسكرية والأمنية الموروثة من الحرب الباردة. وهو يرى أنّ عودة الدين لا تعني عودة للقديم أو الأصول إلاّ من الناحية الرمزية، أما التنظيمات والتصرفات فهي جديدة تماماً لا تعود حتى إلى حقبة الحرب الباردة. أمّا الشعبويات فهي ظواهر تذرُّر وليست اندفاعاتٍ أو حركات اجتماعية بالمعنى المعروف من زمن اليسار والتحرير. وهي من خلال وسائل الاتصال تصل أحياناً إلى مستوى الحقيقة الاعتبارية، وهذا لا يُنافي كونَها تعبّر عن حاجاتٍ حقيقية.
وأذكر أن مفهوم «الفوات» كان أول من استخدمه في الستينات المفكر المغربي عبد الله العروي، وكان يعني به الاختلال الناجم عن التخلف العلمي والثقافي والمفضي إلى الغربة عن ذهنيات وتنظيمات المجتمعات الحديثة والدولة الحديثة. أما السيد ياسين وبعد أربعين عاماً فقد دأب على استخدامه بمعنى أخصّ: تخلُّف الأنظمة العربية عن الركب العالمي في فهم وظائف الدولة، وفي ممارسة العمل السياسي، وفي التعامل مع مطالب الناس باعتبارهم مواطنين وباعتبارهم بشراً. وكان متحيراً بشأن المآلات، ولذلك خشي كثيراً من «الانفجار العربي» عام 2011، وكان ممن خشي على الدولة ذاتها. وقد لامني لأنني في كتابي بعنوان: «أزمنة التغيير» والصادر عام 2014 كتبتُ فصلاً ختامياً عنوانه: الخوف من الدولة والخوف عليها، لكنه بعد أن قرأ الكتاب كلّه (وكان كما سبق القول قارئاً نَهِماً)، اتصل بي ضاحكاً وقال: لا بأس بما كتبت، ولا بأس بمعرفتك بالتحليل الثقافي! وعندما حدّثتُ أستاذنا الدكتور جابر عصفور بما ذكره لي السيد ياسين عن فصل الكتاب، قال: أهم ما في عمل السيد ياسين هذا الجهد الفائق لفهم متغيرات العالم، وإفهامنا إياها!
رحل الأستاذ السيد ياسين عن عمرٍ عالٍ، وفي زمنٍ ما عاد فيه التحليل الثقافي كافياً أو مقنعاً رغم طغيان الثقافوي والشعبوي العنيف. ولسوء الحظ فإنّ الراحل ما درّس كثيراً في الجامعة، والأستاذ يبقى في ذكريات طلابه، بقدر ما يبقى في كتاباته أو أكثر. وقد كتبتُ هذه الكلمة تقديراً لأعماله من جهة، ولكي ألفت الانتباه إلى قضايا ومشكلات البحث العلمي العربي في العلوم الاجتماعية، وفي المستقبليات.