رحل أمس نقيب الصحافة السابق محمد البعلبكي عن عمر ناهز 96 عاماً وأحوال الصحافة لا تُحسد عليها، لم يُعله المرض، ولم تضعف به سبل الحياة، وهو بقي صديقاً للحياة في لحظات حياته الأخيرة، الحياة التي شهدت حضوراً ونجاحات والتماعات
وإخفاقات ومتاعب المهنة التي أحب وبقيت عالمه ومسرحه الأقوى طوال عقود من السنين.
محمد البعلبكي سجل مشواراً طويلاً مع الصحافة شاهداً على أحداث كثيرة داخل لبنان وخارجه، في جردة حياته محطات ومواقف منحت شخصيته غنى ومؤانسة، والتماعاً في النبرة واللغة والديبلوماسية الهادئة والنفس القومية العربية، النفس الطيبة التي تجمع بين الطراوة والوضوح.
كنت تدخل الى نقابة الصحافة، الرملة البيضاء، الى بيتك، الى مكان كنص مفتوح يسوده الكرم اللغوي، والرجل الذي ينتظرك بالجسد والعقل وذاكرة لغوية لا تُستبدل، نسج علاقاته مع الجميع وأسعفته الظروف في نوع من الاستمرارية في مركز النقيب وعلى نحو من صداقة خاطب فيها الكل بالكل، وبذلك الحس الاجتماعي بطرقه الشتى، وبملكة لغوية متماسكة، شغلت جسمه، وحواسه، وصوته وحضوره، الذي تركه وراءه في مبنى النقابة، التي سكن اليها لعقود من السنين.
شكل محمد البعلبكي كنقيب ظاهرة في عنوان واحد: «عروبة لبنان»، على حدود القضايا والإيديولوجيات التي أدخلته السجن حيناً، مولعاً بلبنان وسطياً، وغير منفعل لا طائفياً ولا مذهبياً، على بساطة ودودة من دون ادعاءات ولا مغامرات. شخصية بسيطة غير مركبة وغير مفتعلة، ومن دون وعورة، ومن نوع تلك الحميمية التي كان يرفد بها الجميع.
كثيرون سيتذكرون محمد البعلبكي، ونحن منهم، الرجل الطيب صاحب الدعوى الى حب لبنان والشغوف بانتمائه العربي والذي لم تجعله الأحداث يتخلى عن التفاؤل، الذي بلغ ذروته مع تشييد مبنى النقابة، وإرهاصات النهوض مع رفيق الحريري في مسيرة الخروج من خنادق ومتاريس الحرب الأهلية وإعادة الإعمار.. ونتذكره أكثر مع أيام لبنانية وبيروتية (وهو من مواليد بيروت العام 1921) كانت فيها الصحافة كتاب الحرية، في عصرها الذهبي، وهذا أمر مهم، في الشعور بالحنين وبنقاط كثيرة احتفظ فيها الراحل عن لبنان في دراسته في «المقاصد الإسلامية»، وفي «الكلية الشرعية، أزهر لبنان» وفي عمله الصحافي في مجلة «العروة» و«كل شيء» و«الصدى»، وفي «الديار» و«الصياد» ثم نقيباً للصحافة لمرات متتالية منذ العام 1982، وهو اليوم يمضي الى قدره.
يودع لبنان الصحافة والصحافيون النقيب السابق بإحساس أن أشياء كثيرة قد تغيرت في فترة من البلبلة ونعتقد أن محمد البعلبكي ورفاقه في مهنة المتاعب، شكلوا مفارقة ما في الحياة السياسية، يحدث أنها مرارة وحرارة الحنين في آن، على حدود ذلك الزمن الجميل الذي يغادرنا..