منذ ظهور التصوف في القرون الأولى من التاريخ الهجري، تبوأت هذه الظاهرة مكانا مهما في الفكر الإسلامي، وتناوله الفلاسفة، كابن سينا والغزالي وابن خلدون، وتجادل فيه الفقهاء وعلماء الكلام، بين من يرى فيه بدعة دخيلة على الإسلام، ومن يرى فيه نهجا محمودا لتزكية النفس والوصول إلى الله.
وقد مثّل نشوء ظاهرة التصوف "ضربا من الاحتجاج على ضيق مجالات الحرية التي صادرتها السلطة، وضيق مجالات التفكير والتعبير التي صادرها علم الكلام، وضيق مجالات الحياة التي ابتلعها الفقه"، كما يرى المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي.
الفقه والتصوف
وأضاف الرفاعي في حديثه لـ"عربي21" أن "ردود فعل التصوف كانت غالبا الانسحاب من الحياة، والتشديد على الخلاص الفردي؛ عبر الخروج من العالم، بل والخروج من الجسد، والغياب عن المجتمع، والذي أفضى لدى بعض الفرق الصوفية إلى ألوان من التدجين على نبذ الدنيا ونبذ الحاجات الأساسية للجسد، وحتى التنكر للحاجات النفسية والعاطفية والكرامة الإنسانية، كالحاجة للجمال والابتهاج، والعفاف في العيش لدى المتسكعين والدراويش".
ويلفت الرفاعي إلى أن "المدرسة الفقهية انتصرت تاريخيا على المدرسة الصوفية؛ إذ رفض كثير من المحدثين والمفسرين فهم المتصوفة بوصفه مغرما بالتفسير الباطني الإشاري الرمزي للآيات القرآنية والأحاديث النبوية"، كما يقول.
وبحسب الرفاعي، فإن "المرجعية الشرعية في الاجتماع الإسلامي لا يزال يتوارثها الفقهاء والمتكلمون حتى اليوم، ولم يكن لأقطاب التصوف وأعلامه مرجعية في الفتوى أو إصدار الأحكام".
وعن صلاحية التراث الصوفي للعصر الحديث، قال المفكر العراقي إن "هناك عناصر في التصوف المعرفي برعت في اكتشاف منابع هامة لإثراء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وأحدثت اختراقا هاما في قواعد قراءة النص الديني وفهمه، بعد أن لبث هذا النص مسجونا في آفاق رؤى المفسرين والمحدثين والمتكلمين والفقهاء، التي سجنت معها حياة المسلمين في مدارات مسدودة، تتكرر فيها المقولات والأحكام والتفسيرات والشروح والفتاوى ذاتها منذ تأسيس هذه المعارف في عالم الإسلام حتى اليوم".
مدرسة جلال الدين الرومي
من جهته، يصف الباحث السوري، إسماعيل زين العابدين، مدرسة المتصوفة بأنها مثّلت الاندفاع الحيوي الطبيعي الجميل في مقابل الالتزام، ولو كان إكراهيا قسريا بالطقوس والشعائر الذي مثلته مدرسة الفقهاء، على حد تعبيره.
ويعقد زين العابدين مقارنة بين مدرسة جلال الدين الرومي ومدرسة الفقهاء، ويرى أن ميزة تصوف الرومي هي البحث عن الذات واكتشاف الطاقات الكامنة والجمال في الطبيعة البشرية، بينما الفقهاء الذين يسميهم الرومي "العقلاء" كان همهم الأساسي "النظام الاجتماعي".
ويستدل الباحث زين العابدين بما ذهب إليه الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال، في كتابه "تجديد التفكير الديني"، من أن "الفقهاء تلبّسهم الخوف بعد سقوط بغداد، ووجدوا أنه من الطبيعي في الظروف الحرجة والخطرة أن يتم إعلاء شأن "الصرامة الأخلاقية الظاهرية" على حساب الطبيعة البشرية، وهكذا بدأ الجمود والسكون وتوقف الإبداع".
وحول إذا ما كان التصوف موقفا سلبيا من الحياة، أجاب الباحث السوري بأن التصوف لا يعني الذوبان والاختفاء في السماوات، بل هو "وقود" الكفاح اليومي، "وهو شحن الروح لتواجه العالم كله"، كما يقول.
وبحسب زين العابدين، فإن "المسلمين اليوم في حاجة إلى روح الرومي، وليس لنسخه ولصقه على ذواتهم، في ضوء أن أحد أفكار الرومي المحورية هي الصيرورة الدائمة للإنسان، فلا يتوقف الإبداع، وحتى الموت فهو في نظر جلال الدين الرومي إبداع جديد قادم للنفس البشرية".
عابرة للأديان
أما الداعية السعودي محمد مسفر، فيفرق بين الصوفية الحميدة والمذاهب الهدامة الملتحفة بدثار الصوفية، ويصف الصوفية الحقيقية بأنها "سحر وجمال ونشوة وبهجة، وأن الإنسان لا يجد الله حقا إلا في الصوفية الحميدة".
ويرى مسفر، في حديثه لـ"عربي21"، أن الصوفية مدرسة عالمية، فهي حاضرة في البوذية، وفي اليهودية والإسلام، وكلها تصب في الاتجاه ذاته، وتصل إلى النتائج ذاتها؛ لأنها غير منتمية، فهي تخلق الإنسان الكوني وليس الإنسان المذهبي أو القومي أو الديني، كما يقول.
وفي هذا الاتجاه يذهب الباحث الفلسطيني عبد السلام الحايك، ليصف التجربة الصوفية بأنها تجربة عابرة للأديان، ويشير إلى أن أساس فكرة التصوف تجريبي، فهو يعكس تجربة متكررة تربط بين تجرد النفس من أنانيتها وأمراضها الذاتية في تواصلها مع الخالق.
ثنائية المادي والروحي
ويحذر الحايك، في حديث مع "عربي21"، من أن التصوف كثقافة كانت له تأثيرات سلبية، حين اتخذ شكل التصوف التزهدي عند المسلمين وغيرهم، وكنتيجة للعزلة عن الحياة، وبالتالي عن المعرفة المحسوسة تحول هذا النوع من التصوف إلى شكل من أشكال الوهم الذاتي والخرافات والممارسات الشكلية التي لا علاقة لها بالتصوف ذاته، وفق قوله.
وينبه الحايك إلى أن أي مفهوم للتصوف يقسم العالم الإنساني إلى مادي وروحي لا يتناسب مع مفهوم الإسلام، كما أنه لا يمثل الصورة الصحيحة للتصوف التي يعبر عنها مفهوم الصلاة في الإسلام؛ أي التواصل المتبادل بين الخالق والمخلوق في خضم مواجهة العالم والقيام بوظيفة إعماره.
ويجمل الحايك فلسفة الإسلام -وفق رؤيته- بأن الإنسان كائن واحد لا يفصل بين المحسوس والروحاني، فكلاهما تجل لرحمات الله في الشيء الواحد، وفق قوله.
أحمد أبو رتيمة