تلوح معالم كارثة إنسانية وبيئية كبيرة في سوريا قد تهدد حياة ملايين البشر في وسط وشرق البلاد، وصولاً إلى العراق أيضاً، مع ما تضمه تلك المساحات من أراضٍ زراعية وآثار وثروة حيوانية ونفطية.
وتصدر التحذيرات من كارثة محتملة بشكل دوري، من أطراف دولية وسورية محلية. وحذر النظام السوري من الآثار الكارثية لانهيار محتمل لسدي الفرات وتشرين شمال شرقي سوريا جراء استمرار الأعمال الحربية للتحالف في محيطهما. أحدث تلك التحذيرات صدرت عن نائب السفير السوري لدى الأمم المتحدة، منذر منذر، في رسالة إلى الأمين العام أنطونيو غوتيريس، ومجلس الأمن الدولي، وتنص على أن السكان على امتداد نهر الفرات بالعراق يمكن أن يتأثروا "بالتخريب الممنهج للبنية التحتية"، ليطالب بتوقف الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم "داعش" عن استهداف سدي الفرات وتشرين والمناطق المحيطة بهما لمنع كارثة وشيكة، حسب تعبيره. والحملة التي يتحدث عنها منذر هي داعمة لقوات سورية الديمقراطية التي سيطرت العام الماضي على سد تشرين الواقع في ريف عين العرب (كوباني) الجنوبي بعد معارك ضد "تنظيم الدولة الإسلامية". وتجري حالياً معارك مشابهة بين قوات سورية الديمقراطية والتنظيم قرب سد الفرات في الرقة، ضمن المرحلة الثالثة من عملية "غضب الفرات".
وقد حذرت الأمم المتحدة الشهر الماضي من فيضان كارثي في سوريا في حال انهار سد الفرات بسبب ارتفاع منسوب المياه واجراءات تنظيم الدولة والضربات الجوية التي ينفذها التحالف تحديداً عند سد الطبقة (الفرات) المعرض للخطر نتيجة ارتفاع منسوب المياه والإجراءات التي يتخذها "داعش" الذي يسيطر على السد، فضلاً عن الضربات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وقال تقرير للأمم المتحدة إن منسوب مياه النهر ارتفع حوالي عشرة أمتار منذ 24 كانون الثاني لأسباب عدة، بينها سقوط الأمطار الغزيرة والثلوج الكثيفة، إضافة إلى فتح "داعش" ثلاث بوابات للسد، ما أدى إلى غمر المناطق الواقعة على ضفتي النهر باتجاه المصب بالمياه. وأضاف: "وفقاً للخبراء المحليين، فإن أي ارتفاع آخر في منسوب المياه سيغمر قطاعات ضخمة من الأراضي الزراعية على طول النهر، وقد يضر بسد الطبقة، الأمر الذي ستكون له تداعيات إنسانية كارثية في كل المناطق ناحية المصب".
وأكد التقرير أن أضراراً لحقت بالفعل بمدخل السد نتيجة الضربات الجوية للتحالف الدولي، مشيراً على سبيل المثال إلى أن ضربات جوية على ريف الرقة الغربي يوم 16 كانون الثاني أضرت بمدخل سد الفرات، محذراً من أن أي أضرار أخرى قد تلحق بالسد ستؤدي إلى فيضان واسع النطاق بالرقة وحتى دير الزور التي تبعد 140 كيلومتراً عن الرقة باتجاه المصب ويحاصرها تنظيم "داعش"، وتضم العديد من الحقول النفطية. وتسعى "قوات سورية الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة، إلى تطويق الرقة وتقدّمت حتى كيلومترات قليلة من السد، وتتلقى دعماً جوياً من قوات التحالف للسيطرة على المدينة وعلى السد الذي يقع إلى الغرب منها بنحو 40 كيلومتراً. وبحسب تقرير الأمم المتحدة، فإن مقاتلي تنظيم "داعش" دمروا ثلاث محطات وخمسة أبراج للمياه في الأسابيع الثلاثة الأولى من كانون الثاني الماضي، كما زرعوا ألغاماً في محطات ضخ المياه على نهر الفرات، ما يعيق ضخ المياه، ويلجأ السكان إلى مياه غير معالجة من نهر الفرات.
عن هذا الموضوع، يقول مدير الموارد المائية سابقاً في وزارة البنى التحتية والموارد المائية التابعة للحكومة السورية المؤقتة، الدكتور مروان الخطيب، لـ"العربي الجديد"، إن سد الفرات يعاني منذ خمس سنوات من نقص كبير بأعمال الصيانة والتجهيزات الضرورية لاستمرارية إنتاج الطاقة الكهربائية كما هو مصمم له. ويضيف أن السد يعمل حالياً بطاقته الدنيا، علماً بأنه يجب أن ينتج حوالي 110 ميغاواط، والكهرباء المنتجة تكفي مدينتي الطبقة والرقة وبعض مناطق دير الزور. وبشأن إمكانية تأثر البحيرة، يشير الخطيب إلى أن "البحيرة حالياً هي عند المنسوب 303.50، أي تتحمل نصف متر إضافي، وهي تحتوي حالياً حوالي 14 مليار متر مكعب، وهو منسوب أعلى بقليل من المعتاد في مثل هذه الفترات من السنة، إذ إن فترة التخزين هي في شهري آذار ونيسان نتيجة ذوبان الثلوج في منابع النهر. ولكن يمكن السيطرة على ذلك بواسطة سدي تشرين وسد أتاتورك في تركيا".
وحول إمكانية تأثر السد بالضربات الجوية، يقول الخطيب إن "جسم السد الترابي لم يتأثر حتى اللحظة بأي قصف مباشر، وكذلك الكتلة الخرسانية لجسم المحطة مع توابعها، ولكن تبقى الاحتمالات واردة في حال اقتراب المعارك من مدينة الطبقة نظراً للكمية الهائلة من المياه التي تحتويها البحيرة، وكون جسم السد الخرساني قد تحول إلى مركز للقيادات العسكرية لداعش وسجن للعناصر المهمة من معارضيها". ويختم بالقول: "في حال حدوث ما لا تحمد عقباه، فإن الخطر الحقيقي سيكون من نصيب سد البعث الذي يبعد عن سد الطبقة 30 كيلومتراً، أما من ناحية المدن، فإن الخطر سيبدأ بمدينة الرقة وصولاً إلى مدينة البوكمال حيث تقع هذه المدن على أطراف النهر من دون حماية حقيقية من هكذا موجات فيضانية".
استهداف السد
حين سيطرت قوات المعارضة على سد الفرات في شباط 2013، أبدت استعدادها للتعاون مع إدارة المحطة، وأعلنت أنها لن تتدخل في أعمال السد، وستقدّم المساعدة المطلوبة لضمان سير العمل في المحطة الكهرومائية، والحفاظ على السد. حينذاك، ظلت المحطة تتمتع باستقلالية نسبية، وبقيت على صلة مع مركز تنسيق دمشق لتوزيع الطاقة ووزارة الموارد المائية، واستمر النظام في دفع الرواتب وتخصيص ميزانية لخدمة أعمال الصيانة. غير أن قوات النظام الموجودة في مطار الطبقة العسكري قصفت مبنى المحطة، وسقط أكثر من صاروخ بعيد المدى في البحيرة، على بعد مئات الأمتار من المحطة وجسم السد. كما تعرض السد في 30 نيسان 2013 إلى استهداف مباشر بصاروخ، ما أدى إلى تشققات في بنية السد. ووقعت أكثر الهجمات سوءاً في 7 أيلول 2013 عندما أصاب قصف بالبراميل المتفجرة من مروحيات النظام السوري جسم السد بشكل مباشر، ما أدى لإصابة حوض التهدئة وأخرج العنفة الثامنة بالكامل مع مجموعتها من الخدمة.
وحين سيطر تنظيم "داعش" على مدينة الطبقة نهاية العام 2013، بعد أن أحكم سيطرته على مدينة الرقة، حافظ التنظيم على وجود الكادر الهندسي والفني في محطة سد الفرات، لعدم امتلاكه كادراً تشغيلياً لها، ولكنه لم يدفع رواتب للموظفين، إلا لمن بايع منهم التنظيم، وكانوا قلة. واستمر العاملون بقبض رواتبهم من النظام من مدينتي حماة ودير الزور، واستطاع من بقي في المحطة الحفاظ على جاهزيتها، على الرغم من الصعوبات النفسية والمعيشية، إلا أن استمرار الضغوط أجبر قسماً كبيراً منهم على الخروج، ما جعل المحطة في وضع حرج من الناحية الفنية، وانخفض مستوى توليد المحطة إلى حدوده الدنيا، ولكن ظلت هذه الحدود قادرة على الموازنة بين واردات البحيرة من تركيا، وصادراتها من المحطة، مع الحفاظ على منسوب المياه في البحيرة ضمن المنسوب الآمن. وتمرر تركيا نحو 700 متر مكعب/ثانية إلى نهر الفرات، إلا أنه في الفترات التي أعقبت سيطرة تنظيم "داعش" على السد، انخفضت هذه الكمية إلى حدود دنيا، وترافق ذلك مع الإهمال من جانب التنظيم، وفقدان قطع الغيار بشكل كامل، وهجرة الخبرات الفنية.
استراتيجية "داعش"
يُعتبر سد الفرات أهم مورد لتوليد الكهرباء في سورية، كما يُعتبر ركيزة أساسية في المشاريع الزراعية وتنظيم مجرى النهر لتجنب الفيضانات التي كانت تؤدي إلى غرق المناطق الواقعة على ضفتيه. إلا أن التغيّرات الميدانية العسكرية والانفجارات القريبة من محيطه في الفترات الأخيرة، دفعت تنظيم "داعش" إلى اتخاذ إجراءات احتياطية، وفتح 3 عنفات من المياه خوفاً من تصدّعات في جسم السد، ما أدى لغمر مساحات زراعيّة واسعة على ضفتي نهر الفرات. وجاء هذا الإجراء أيضاً كجزء من خطط التنظيم الدفاعية لإعاقة تقدّم أي قوات باتجاه السد من خلال إغراق المناطق المحيطة به بالمياه، وهو ما تسبب في اختفاء عدد كبير من "الحوايج"، وهي جزر صغيرة جداً في نهر الفرات.
وكانت "قوات سورية الديمقراطية" سعت إلى التقدم باتجاه مدينة الطبقة، بالترافق مع قصف جوي من طائرات التحالف استهدف محيط سد الفرات والطرق المؤديّة إليه، أدى بعضه إلى ضغط شديد على السد. ومع غمر مناطق واسعة خلف السد بالمياه لتشكل مانعاً طبيعياً أمام تقدّم القوات المهاجمة، ليس أمام "قوات سورية الديمقراطية" سوى الطريق المار فوق جسم السد بعرض 20 متراً، وهو مكشوف تماماً ومسيطر عليه نارياً، ما يعني أن جسم السد قد يتحول إلى ساحة قتال وقصف سيؤدي إلى إصابته، وربما إلى إحداث أضرار في جداره الحاجز للمياه من طرف البحيرة، ووصول المياه إلى الركام الرملي المشكل لجسم السد ويذيبه، ويتسبب بالتالي في انهيار السد. وتشير تقارير إلى أن التنظيم عمد إلى تفخيخ السد وزرع عبوات متفجرة في أنحاء مختلفة من المحطة وجسم السد.
ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في 24 كانون الثاني الماضي عن تقارير استخباراتية قولها إن "داعش" يستخدم سد الفرات كمخبأ لسجنائه ومستودع لسلاحه وملاذ لقادته. وقالت الصحيفة إن المسؤولين الأميركيين على دراية بعمليات التنظيم في مدينة الطبقة، وينتابهم قلق بشأن استخدام التنظيم لسد الفرات مركزاً لعملياته، وأن هناك تخوفاً لدى بعض المحللين والمسؤولين الأميركيين من أن التنظيم قد يعمد إلى تفجير السد إذا شعر بالخطر في تلك المنطقة.
تداعيات كارثية
وفق تقديرات مختلفة، فإن انهيار السد خلال أقل من عشر دقائق، سوف يؤدي إلى تدفق المياه إلى سد البعث، الذي يبتعد عن سد الفرات نحو 30 كيلومتراً، ويحجز في بحيرته 90 مليون متر مكعب من المياه، وستجرفه السيول لينضم إلى الكارثة متجهاً إلى الرقة، بسرعة تتجاوز 120 كيلومتراً/ساعة، وخلال أقل من نصف ساعة ستصل المياه إلى الرقة، وتغمرها بارتفاع قد يتجاوز 20 متراً، وخلال ساعتين ستصل إلى دير الزور ومنها إلى البوكمال والعراق.
ويعتبر المهندس المدني منير سويد أن أكثر من 300 بلدة وقرية ومدينة ستُزال عن بكرة أبيها في حال حدوث تصدّع في سد الفرات وطوفان مياهه إلى اليابسة. ويضيف سويد أن الارتجاج الذي يصيب السد نتيجة القصف، والحمل الزائد عليه من المياه نتيجة الأمطار، إضافة للتصدّع والخروقات في بنيته مهما كانت بسيطة، قد تؤدّي حتماً إلى انهيار السد وفيضان المياه.
ويدعو إلى إجراء زيارة ميدانية سريعة إلى منطقته وتقييم حجم الضرر والتأكد من أن "المفيض" الخاص بالسد، الذي وظيفته تصريف المياه الزائدة، يعمل تماماً، وإصلاح أي خلل أو مشكلة فيه. ويتابع: "كارثة حقيقية ستحل بالمنطقة إذا فاضت مياهه، وستؤدي إلى هلاك البشر والحجر وغرق أكثر من 300 منطقة، بما في ذلك نسف البنى التحتية والمنازل والمباني جراء الدفع الهائل للمياه المحتجزة". كما سيؤثر انهيار السد على المناطق الموجودة قبل السد، وصولاً إلى حدود تركيا، مسبباً جفافَ وعطش الأراضي الزراعية.
ويبلغ طول سد الفرات أو الطبقة نحو 4.30 كيلومترات وارتفاعه أكثر من 60 متراً، وشكل السد خلفه بحيرة كبيرة طولها نحو 90 كيلومتراً من مدينة الطبقة وحتى سد تشرين عند أطراف منبج، ومتوسط عرضها 8 كيلومترات، ويتجمع في البحيرة نحو 14 مليار متر مكعب من المياه. كما تقوم البحيرة بري أراض زراعية شاسعة على طرفيها. وجرت المباشرة في بناء السد عام 1968، واستمر نحو خمس سنوات تقريباً بمساعدة من الاتحاد السوفييتي آنذاك. ويستفاد من سد الفرات في مشاريع زراعية كبيرة في المنطقة وتوليد الكهرباء عبر محطات التوليد الكهرومائية، وكذلك الاستفادة من طول البحيرة لأكثر من ثمانين كيلومتراً في إحياء المناطق المحيطة بالبحيرة.