«داعش» سيُهزم في الموصل قريبا إذا ما اعتبرنا الهزيمة دحرا له في الأحياء التي ما زال يسيطر عليها في المدينة، وربما ستمتد الهزيمة لاحقا لتشمل الرقة السورية. لكن أحدا لم يعدّ نفسه لهذه الهزيمة الميدانية، سوى أصحاب مشاريع الحروب المتواصلة، ذاك أن التنظيم لم يولد من نصرٍ عسكري، ولم يتدفق على المدن العراقية والسورية من فراغ، بل على العكس، فهو جاء ليملأ فراغا.
في الأسابيع المقبلة سيُدحر التنظيم الإرهابي في الموصل، ولكن ماذا بعد ذلك؟ لا جواب في العراق على هذا السؤال! الجميع غارق اليوم في لجة «النصر». بعد «داعش» ينتظر العراق استحقاقات العلاقة العربية الكردية، والشيعية السنية، والكردية السنية والكردية الشيعية، ناهيك عن العلاقات البينية داخل كل مركّب من هذه المركبات، وجميعها عرضة للانفجار. وحده «داعش» يملك وجهة، وهي وإن كانت الهزيمة الوشيكة، لكنها وجهة في النهاية وسيُبنى على الشيء مقتضاه والصحراء قريبة، والنوم فيها لأشهر وربما لسنوات أمر ممكن.
القوى العراقية تقاتل التنظيم، من دون أن تملك مشروعا للنصر. القوى الشيعية تقاتله وفق خطة إيرانية لا مكان فيها لحساب عراقي، والأكراد ينتظرون شروط استقلالهم وهم متنازعون بين أربيل والسليمانية، وبين طهران وأنقرة، واليوم دخل عنصر جديد إلى المعادلة الكردية العراقية، هو حزب العمال الكردستاني، فصار شريكا للثنائي في سنجار وفي مناطق أخرى من الأقليم.
السنة يترنحون بين هزائم مختلفة، ولا يبدو أن وريث «داعش» قد ولد بعد، وثمة تغير هائل في موقعهم وفي شروط وجودهم في العراق، ذاك أنهم مُحتلون اليوم من قوتين هما «داعش» و «الحشد الشعبي»، ولا يبدو أن ثمة جدوى لمحاولات أنقرة إعادة جمعهم، وهي على كل حال إذا نجحت في ذلك، فلا قيمة عراقية لنجاحها، إذ إن وظيفته ستقتصر على تعزيز الشروط التركية في التنافس غير العراقي على مصير العراق.
ثمة لحظة لا يريد أحد أن يستثمر فيها، فقد كانت تجربة أهل الموصل مع «داعش» مريرة بالفعل، وزائر الشطر الأيسر من المدينة يمكن له أن يتلمس مستوى حماسة السكان لهزم «التنظيم»، على رغم الأثمان الفادحة التي دفعوها. وهذا الكلام لا يسعى إلى القول بأن «داعش» جسم غريب عن التركيبة هنا، إنما إلى القول بأن ثمة تجربة قاسية فعلا عاشتها المدينة في السنوات الثلاث المنصرمة، وهي تجربة لا تشبه كل التجارب المأسوية التي شهدها العراق في العقدين الفائتين، وهذا ما يجمع عليه السكان.
لا أحد يستثمر في هذه اللحظة. لا أحد يريد أن يقول للسنة، ضحايا «داعش» الفعليين، تعالوا لنحول فرحتكم بهزم «داعش» سياسة. فالقوى الشيعية لا تملك القدرة على قول ذلك إذا أرادت، والأكراد ما يعنيهم اليوم من العلاقة مع جيرانهم هو تنظيم الانفصال لا معاودة الاتصال. لكن الطامة الكبرى هي في عجز القوى السنية في العراق عن تنظيم الفرحة بهزم «داعش» وتصريفها سياسة.
ستنتهي الفرحة قريبا، وسيعاد إنتاج الشروط التي ولدت «داعش» في ظلها، وسيدان السكان الفرحون؛ لأن ثمة من جاء مجددا وقال لهم تعالوا لنخوض حربا جديدة، وستنقلب المدينة على نفسها. هذا الأفق السوداوي هو وحده ما يلوح لمتقصي النصر على «داعش» في الموصل اليوم. فالعلاقات بين الجماعات العراقية التي تحارب «داعش» جنبا إلى جنب، تنقلب حربا بينية ما إن تغادر محاور القتال المباشرة، وأوضاع الناس المعيشية كارثية في ظل فساد هائل وتفاوتات لا حدود لها بين المتنعمين بغنائم النفط والحروب، والمحرومين من أدنى شروط العيش. المقاتل أو الجندي جُهز للحرب على نحو لا يشبهه. فهو مزود بأحدث وسائل القتال، ومحروم في الوقت ذاته من تعليم أبنائه، وأحيانا محروم من راتبه، والسؤال الأكثر إلحاحا على الجنود حين يصادفون صحفيا على الجبهة هو: «شقد راتبك، لتترك أهلك وتجي تباوع على الحرب».
لا أحد متفائل بمرحلة ما بعد الحرب في الموصل على رغم أن نصرا يلوح.