من شأن الجدل السياسي الجديد الدائر حول سلسلة الرتب والرواتب في مجلس النواب والشارع استحواذ الايام المقبلة، على نحو يثير أكثر من علامة استفهام في اكثر من اتجاه، وخصوصاً بإزاء توقيته في الايام القليلة المتبقية من المهلة القانونية لصدور مرسوم دعوة الهيئات الناخبة. غداً الاحد 19 آذار تكون البلاد دخلت في الاشهر الثلاثة الاخيرة من الولاية الممددة لمجلس النواب.

في مثل هذا اليوم من حزيران، عندما تدق الساعة منتصف الليل، يصبح البرلمان عند المفترق: ما لم يكن أجرى انتخابات نيابية عامة، أو تحايل على القانون ومدد لنفسه، فإن النواب يمسون أعضاءً سابقين في المجلس وتدخل السلطة الاشتراعية في فراغ ــ وليس شغوراً فحسب ــ سيكون الاول من نوعه منذ انبثاق الحياة البرلمانية اللبنانية في دستور 1926.
خطورة الاستحقاق المقبل تحمل على التساؤل عن توقيت اندلاع المواجهة الجديدة حول سلسلة الرتب والرواتب ومحاولة إمرار ضرائب جديدة بذريعة تمويلها بغية تسعير الخلاف عليها على نحو مفتعل، محورها مجلس النواب والحكومة عبر وضع فريقين أحدهما في مواجهة الآخر، وبينهما والشارع. اشتباك ليس الاول، وقد خبرت حكومة الرئيس تمام سلام نظيره قبل اكثر من سنة ونصف سنة في ملف النفايات. الا أن العودة الى مواجهة الشارع من جهة، وفي ما بين المؤسسات الدستورية من جهة اخرى، يثير تساؤلاً عن افتعال أزمة في توقيت غير صائب وإصابة عصفورين بحجر واحد: إطاحة سلسلة الرتب والرواتب والانتخابات النيابية في آن واحد. كلا الملفين مستقل احدهما عن الآخر، بيد ان تزامن طرحهما وافتعال الاشكالات والخلافات من حولهما يؤولان الى إصابة الهدف الثالث: ضرب سمعة العهد الجديد ووضع رئيس الجمهورية أمام التحديين الاكثر استفزازاً لأي حكم: أن يصبح وجهاً لوجه مع الشارع والمؤسسات الدستورية في آن واحد.

 


لم يقل الرئيس ميشال عون كلمته بعد في الاشتباك الدائر بين الشارع ومجلس النواب حيال سلسلة الرتب والرواتب، بعدما انضم رئيس الحكومة سعد الحريري مساء الخميس الى مجلس النواب في الدفاع عن السلسلة وتمويلها، تبعاً للضرائب الجديدة. قال رئيس الجمهورية كلمته في انتخابات 2017 عندما وضع خطّين متوازيين لا يلتقيان في أي حال: أحدهما إصراره على إجراء الانتخابات النيابية العامة، والآخر رفضه إجراءها وفق القانون النافذ منذ انتخابات 2009. تأكيداً على تشبّثه بهذين الخطّين كي لا يقفز فوقهما أحد، رفض عون توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة الشهر الفائت، في مطلع المهلة القانونية المنصوص عليها في قانون الانتخاب لتوجيهها، وسيرفض توقيعه أيضاً في اليوم الاخير من المهلة غداً 19 آذار، ما يشير الى أن الخيارات المتبقية أمام إجراء الانتخابات النيابية تقتضي أن تمر من خرم إبرة:
1 ــ على وفرة الصيحات القائلة بأن في البلاد قانوناً نافذاً للانتخاب أقرّه مجلس النواب عام 2008، وأجريت على أساسه انتخابات 2009، وإن في غياب سواه أو بديل منه لا يسع إجراء الانتخابات النيابية العامة أو الفرعية إلا على أساسه... على وفرة ذلك، لا يعدو قانون 2008 كونه حبراً على ورق ليس إلا، في معزل عن أقوال زعماء أو سياسيين أو أحزاب أو تيارات ان لا وجود له، او انطفأ او تبخّر بالنسبة اليهم. على ان هذا القانون قائم فعلاً، لكنه حبر على ورق حتماً ما دام تطبيقه يتطلب صدور مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، الذي يتطلب بدوره توقيع رئيس الجمهورية، الذي أكد هو الآخر انه لن يكون في صدد هذا التوقيع.
بذلك تصبح الدائرة مغلقة تماماً: وجود القانون لا يتيح اجراء الانتخابات وإن أجمع عليه الافرقاء جميعاً، ما لم يمهر الرئيس مرسوم الدعوة بتوقيعه. والواقع ان احداً من هؤلاء من الكتل الكبرى لا يشكو من افتئات القانون النافذ عليه، اذ كفل منذ انتخابات 2009 حصته الكبيرة في البرلمان: لا الحريري ولا حزب الله ولا حركة امل ولا النائب وليد جنبلاط ولا التيار الوطني الحر. قد يكون حزب القوات اللبنانية وحده المتضرّر منه لرغبته في تكبير حصة كتلته. هؤلاء جميعاً باتوا يطرحون مع اقتراب نهاية الولاية المفاضلة بين انتخابات بالقانون النافذ او الفراغ. تالياً يسقطون من الحساب الاتفاق على قانون جديد.
2 ــ لا أحد يبشّر بالفراغ الشامل في السلطة الاشتراعية، ولا أحد ــ بمَن فيهم رئيس الجمهورية ــ يريده. الا انه امسى احد الخيارات المتوقعة متى تعذّر اجراء الانتخابات النيابية أو تمديد ثالث للبرلمان الممدد له في الاصل. مع ذلك، فإن احداً لا يسعه تحمّل مسؤولية التسبّب به، لا رئيس الجمهورية ولا الحكومة المعنية اولاً بوضع قانون الانتخاب، ولا مجلس النواب الذي يفقد اذذاك شرعية البقاء والاستمرار، بما في ذلك هيئة مكتب المجلس، وإن لوظيفة ادارية محض. ما ان يصبح النواب الحاليون سابقين بفعل انتهاء الولاية في الساعة صفر من 20 حزيران 2017، لا يعود ثمة كيان قانوني لهيئة المكتب كما لاعضائها وقد فقدوا بدورهم الصفة، هي المنبثقة في الاساس من شرعية البرلمان المنتخب، المستمرة باستمراره، إذ تستمد هيئة المكتب الشرعية تلك من الولاية القانونية للمجلس ليس الا. عندئذ يدخل البرلمان في الفراغ الشامل الذي لا تعيده منه سوى انتخابات نيابية عامة وفق القانون النافذ، تدعو اليها الحكومة القائمة بمرسوم يوقعه رئيس الجمهورية. في حال كهذه يفقد الدافع الذي قاد الى الفراغ مغزاه واهدافه، حينما يعود الجميع الى القانون النافذ.
وما دام الافرقاء جميعاً يجهرون برفض تمديد الولاية، في الظاهر على الاقل، لم تعد سوى فرصة يتيمة لتفادي الفراغ وليس اجراء الانتخابات فحسب، لكن من خرم إبرة يسهل معها إمرار قانون 2008 معدّلاً ربما.