ما حصل أمس في مجلس النواب لم يكن مفاجئاً. المؤشرات كلها، التي سبقت الجلسة التشريعية ورافقتها منذ انعقادها يوم الاربعاء الماضي، كانت تشي بأن «المسرحية» متواصلة، وأن فصلها الاخير لم يُكتب بعد، وبالتالي لن تُسدل الستارة. المفاجئ حقاً كان في تردّي «الإخراج» الى مستوى غير مسبوق. هذه المرّة، لم يجر «تطيير النصاب» بالمعنى الدقيق، ولم تعلن كتلة نيابية وازنة «معارضتها» لمشروعي قانوني سلسلة الرواتب والرتب والاجراءات الضريبية، ولم يلوّح أحد باستخدام «الفيتو» أو يغنّي مواويل «الميثاقية» و»الديمقراطية التوافقية».

بالعكس تماماً. كل ما احتاج إليه فرط الجلسة، أمس، هو ببساطة شديدة: «منشور»، مجهول المصدر، تم تداوله على نطاق محدود على شبكات التواصل الاجتماعي، يعرض نماذج عن ضرائب على الاستهلاك والبنزين والكهرباء وغيرها، يزعم النواب أنها غير مطروحة، ويزعمون أنها أثارت ردود فعل ساخطة من «الجماهير الشعبية»، وأثارت «البلبلة»، وجعلت «التشريع» تحت هذا «الضغط» مستحيلاً. نعم، بهذه الحجّة جرى فرط جلسة نيابية عامّة، سبق أن مهّد لها رئيس كتلة المستقبل، فؤاد السنيورة، بوصفها أنها «من أهم وأخطر الجلسات». هذا الإخراج الهابط احتاج الى سياق درامي لإضفاء بعض الإثارة الرخيصة، إذ كان لا بد من ظهور «الشرير» في نهاية الفصل، ينصب المكائد وينسج المؤامرات ويستعمل قوى خارقة وأيادي خفية ويخرّب ما أجمعت كل الكتل النيابية على تحقيقه من مطالب مزمنة محقة وضرائب ضرورية «عادلة»؛ إنه سامي الجميّل، رئيس حزب الكتائب الذي يمثّله 5 نواب فقط من أصل 128 نائباً، 4 نواب منهم كانوا حاضرين في الجلسة والخامس مسافراً!
قبيل عودة النواب الى القاعة مساءً، اتصل نائب رئيس مجلس النواب، فريد مكاري، برئيس المجلس نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، وشكا اليهما سامي الذي يناقش كثيراً في كل إجراء ضريبي، ولا يُظهر الانضباط المطلوب، ويبثّ «الشائعات». قالا له إن ذلك غير جائز. هدّد الحريري برفع الحصانة عنه، فيما طلب بري من مكاري أن يرسل النواب الى منازلهم، وهو سيتولى زمام الأمور لاحقاً لوضع حدّ لهذه الفوضى. تشاور مكاري مع النواب جورج عدوان وإبراهيم كنعان ووزير المال علي حسن خليل، واتفقوا كلّهم على أن تصرفات سامي تنطوي على «مكيدة» ولا بد من التصدي له. كان قد وصل الى مبنى البرلمان 69 نائباً، ودخل الى القاعة 57 نائباً تمهيداً لمعاودة «التشريع». عندها، وقبل أن يكتمل النصاب، سارع مكاري، بصفته رئيساً للجلسة نيابة عن بري، الى إعلان رفع الجلسة التشريعية الى موعد يحدده بري لاحقاً. وقال: «بسبب عدم اكتمال النصاب رفعت الجلسة»! ليتلو تصريحاً «مكتوباً» عن «المزايدين والمعرقلين، في مقدمتهم رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل وحزب الكتائب»، ويحمّلهم «مسؤولية الالتفاف على سلسلة الرتب والرواتب وإلغائها، بما يضيع حقوق أكثر من 250 ألف عائلة، بحجة تأمين موارد من خارج سياق الإيرادات دون تقديم طرح بديل وواقعي، ودون المشاركة بأي عمل جدي».
بدا الجميع مسرورين بنهاية هذا الفصل. غادر السنيورة مبتسماً، في حين ارتاح الحريري الذي عارض السلسلة والضرائب حتى إعلان رفع الجلسة، ليقول «كان لديّ تحفّظ على السلسلة في السابق، أما اليوم فأنا مصرّ على إقرارها»! وتوجّه إلى المجتمع المدني بأن الشتائم عيب، وأعلن أن «هناك محاولة حقيقية لضرب السلسلة، العائلات كانت تنتظر إقرارها وهي في ذمة الذين أطلقوا الشائعات. نحن لا نتحمّل مسؤولية من عرقل إقرار السلسلة، وهناك اختلاق للأكاذيب، والجو من يوم أمس الى اليوم أثّر على هذه الحركة». ومن خارج مجلس النواب، خرج رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بموقف يوضح الصورة الجلية، أعلن «تعليق تأييد القوات لسلسلة الرتب والرواتب، الى حين تأمين وارداتها من قبل المعارضين لها»، مشيراً الى أنه «عندما يصبح الامر متعلقاً بالمزايدات فلا يمكن العمل»، وقال: «إننا سنشارك في الجلسات المقبلة، لكن لن نؤيّد السلسلة. وإننا نتمنى أن نعطي المواطنين المال، لكن هناك حياة يجب أن تسير». كشف جعجع المستور، وكان أكثر شجاعة من نائب في تكتل التغيير والاصلاح (رفض ذكر اسمه)، إذ رأى «أنّ تأجيل الجلسة أتى لتحصين السلسلة»، وقال إنها «ستقرّ حتماً، وخصوصاً أنّه تكوّن جوّ سياسي جمع الأضداد حول إنصاف أصحاب الحقوق، لا سيما التغيّر الذي طرأ على موقف الحريري»، وتحدث عن «ازدواجية يمارسها الجميّل لجهة أن البنود نفسها التي وافقت عليها كتلته في جلسة الهيئة العامة في 2014 هي نفسها التي ترفضها اليوم، تماماً كما فعل مع خطة النفايات وعاد واعترض عليها بحكم العلاقات التي تربطه بمصالح شركات النفط الموجودة على ساحل المتن». أما الجميّل فبدا محتاراً: «إذا كان هناك أكثرية نيابية من 123 نائباً، فلماذا لم يقرّوا السلسلة والضرائب؟ هل نحن أوقفنا الجلسة؟».
صدّقوا، هكذا جرى إنهاء الفصل «الأهم والأخطر»، بحسب وصف السنيورة، في مسرحية متواصلة منذ 21 آذار 2013. في هذا التاريخ، أنهت هيئة التنسيق النقابية إضراباً مفتوحاً استمر 33 يوماً، تخللته عشرات التظاهرات والاعتصامات، وحشدت تأييداً واسعاً، وأجبرت حكومة نجيب ميقاتي على إقرار مشروع قانون تعديل سلسلة الرتب والرواتب للموظفين في الإدارات العامة والمعلمين والاساتذة وجنود الجيش وعناصر الامن وأجور المتعاقدين والأجراء في الدولة ومعاشات المتقاعدين، وذلك بعد تجميد حقوق هؤلاء منذ عام 1998، أي منذ آخر تعديل طرأ على السلسلة.
في السنوات الاربع الماضية، حصلت أمور كثيرة. انقضّت أحزاب «السلطة» على هيئة التنسيق النقابية وسيطرت على روابطها بالكامل وشرذمت وحدتها... وأطاحت رمز نضالها، حنّا غريب. ونزلت قوّة الضغط، المتمثلة في ما يسمّى «الهيئات الاقتصادية»، الى الميدان مباشرة، وأعلنت بلسان خطيبها الأبرز، المصرفي وصاحب الوكالات الحصرية نقولا شماس، أنها تُطاع ولا تطيع، وأن السلسلة لن تمر، وأنها لن تسمح بزيادة الاقتطاعات الضريبية من أرباح المصارف وكبار المودعين والمضاربات العقارية والاحتكارات التجارية... بمعنى واضح، شهر فاحشو الثراء سلطتهم الحقيقية وقدّم مجلس النواب ومجلس الوزراء فروض الطاعة الى الآن. عقدت اللجان النيابية الاجتماعات تلو الاجتماعات، مسخت السلسلة وتشرذمت وحمّلت كل الموبقات عبر التهويل المنظّم بكلفتها وآثارها السلبية على الاوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية. تفنّنت باقتراح المزيد من الضرائب الاضافية التي تصيب الطبقات الوسطى، بهدف تهييجها ضد العاملين في القطاع العام وجرّها الى موقف ضد الضرائب بالمطلق، بما فيها التي تصيب الارباح والريوع. في هذه الفترة، نامت السلسلة والضرائب حتى 14 أيار 2014، عندما انعقدت الجلسة النيابية التشريعية الشهيرة.

يومها كُتب فصل شبيه بفصل أمس، إذ بعد إقرار أكثرية الاجراءات الضريبية المقترحة، وقبل طرح مشروع السلسلة، أعلن وزير الدفاع حينها، سمير مقبل، موقفاً هزلياً، إذ طالب بفصل سلسلة العسكريين عن سلسلة بقية الفئات. كانت هذه الحجة التي علّقت عليها الجلسة، ولم يُقفل محضرها حتى اليوم. نامت السلسلة والضرائب مجدداً، حتى الشهر الماضي، عندما بدأ مجلس الوزراء مناقشة مشروع قانون الموازنة لعام 2017. لا يزال هذا المشروع عالقاً بسبب ضغوط هائلة مارستها جمعية المصارف ضده، ليرضخ مجلس الوزراء في النهاية، ويقرر عدم لحظ اعتمادات في المشروع مخصصة لتمويل تعديل السلسلة، وعدم لحظ الاجراءات الضريبية المقترحة، علماً بأن الاعتمادات تقدّر بنحو 800 مليون دولار، في حين ان الاجراءات الضريبية تقدّر بأكثر من 1.6 مليار دولار، أي الضعف تقريباً، وبالتالي لم يكن خافياً أن الإجراءات مخصصة أصلاً لتغطية عجز الموازنة أكثر مما هي مخصصة لتمويل السلسلة. كانت الحجّة في مجلس الوزراء أن مشروعي قانوني السلسلة والضرائب موجودان في مجلس النواب، وعلى المجلس أن يحسم قراره، كما لو أن الكتل السياسية الممثلة في مجلس الوزراء هي غيرها في مجلس النواب.
عقدت اللجان النيابية المشتركة اجتماعات سريعة في الاسبوع الماضي، وأقرّت للمرة الرابعة المشروعين. حدد موعد الجلسة التشريعية للتصديق عليهما ووضعا في أسفل جدول الاعمال، كي يتسنى إقرار مشاريع القوانين الاخرى قبل فرط هذه الجلسة. استبقت «الهيئات الاقتصادية» مناقشات النواب ببيان صدر في 14 آذار الجاري، يعلن «رفض الزيادات الضريبية التي أقرّتها اللجان المشتركة في مجلس النواب»، ويرى أنّ «هذه الضرائب التي تستهدف في المقام الأول القطاع المالي والقطاعات الإنتاجية سوف يكون لها ارتدادات كارثية على مجمل الواقع الاقتصادي»، و»إن هذه المرحلة هي مرحلة سياسية انتخابية دقيقة لا تتيح تشريعاً ضريبياً يتماشى مع مستقبل البلد انطلاقاً من رؤية اقتصادية واضحة». واقترح «رشوة» بقيمة 850 مليون دولار تسددها المصارف لمرّة واحدة تحت عنوان «أرباح الهندسة المالية التي أجراها مصرف لبنان مع المصارف»، والتي درّت عليها أكثر من 5.5 مليارات دولار كأرباح استثنائية تضاف الى أكثر من ملياري دولار من الارباح السنوية.
ما حصل أمس لم يكن إلا رضوخاً يعبّر عنه مسار السلسلة والضرائب والموازنة الطويل. الايام المقبلة ستُظهر إذا كانت «الرشوة» مقبولة لتمرير الموازنة بلا الضرائب، وربما «السلسلة» المشروطة التنفيذ، على غرار ما حصل في عام 1998، عندما ترك المفعول الرجعي معلقاً «حتى توافر التمويل».

 


تحركات الشارع

أمس، تجمّع العشرات من حزب الكتائب وبعض ناشطي مجموعات حراك صيف 2015، وتوعّدوا بمواصلة التحرك حتى إسقاط الضرائب التي تصيب الطبقات الوسطى. في هذا الوقت، تستمر رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي في تنفيذ الإضراب المفتوح في الثانويات الرسمية ودور المعلمين، إلاّ أنها لم تضع أي خطة تحرك ميدانية في ضوء ما حصل في الجلسة التشريعية، باعتبار أن ما صدر عن الجلسة لا يزال ضبابياً والأيام الثلاثة المقبلة هي أيام ميتة ووقت ضائع، في انتظار ما إذا كان سيتم تحديد موعد لجلسة تشريعية الأسبوع المقبل ليُبنى على الشيء مقتضاه.


الضرائب المقرّة قبل فرط الجلسة

أقرّت الهيئة العامة قبل فرطها، أمس، رفع الرسوم على استهلاك المشروبات الروحية بنسبة مئوية، وقد اعترض على هذه الضريبة كلّ من كتلة الكتائب، التي رأت أن هذه الضريبة تطال المواطنين في حياتهم اليومية، فيما جددت كتلة الوفاء للمقاومة موقفها الرافض لكل الضرائب على ذوي الدخل المحدود. وبالنسبة إلى المادة المتعلقة برفع الرسوم على استهلاك بعض أنواع التبغ والتنباك، فقد شطبت المادة الواردة في مشروع القانون والتي ترفع الرسم بنسبة 43.75% على السيجار و135% على السجائر ونرجيلة المعسل واستبداله باقتراح تقدم به النائب عاطف مجدلاني يقضي بزيادة 250 ليرة لبنانية على سعر علبة السجائر و500 ليرة على سعر علبة السيجار، وهنا اقترح النائب الجميّل زيادة 500 ليرة على سعر السيجار الواحد. إلاّ أن كتلتي التنمية والتحرير والوفاء والمقاومة رفضتا رسوم التبغ، لكونها تزيد التهريب ولا تخفف استهلاك الدخان ولا توفر إيرادات للسلسلة، وهنا أوضح وزير المال أنّ هذا الاقتراح لم يرد من الحكومة بل وضعته لجنة نيابية فرعية، في حين أن مؤسسة الريجي تضخ أرباحاً على خزينة الدولة.
الهيئة العامة أقرّت أيضاً فرض 5 آلاف ليرة كرسم مغادرة على المسافرين في البر. وهذا الاقتراح أخذ جدلاً واقترحت كتلة الكتائب فرض رسم 100 ألف ليرة على كل سيارة تأتي من سوريا، إلاّ أن هذا الاقتراح لم يأخذ بالاعتبار لكون الاتفاقيات الثنائية اللبنانية السورية تتعارض معه.