الدولة بدأت بعد طول انقطاع بتعيين الشواغر الوظيفية من الرتب العالية: القضاة والضباط والمدراء العامون والموظفون من سائر الرتب، هم ركن الدولة وعمادها وعمودها الفقري، وهم العضل الذي يضخّ في شرايينها الدم.
ولكنَّ الواقع المؤسف أن هؤلاء الذين يديرون شؤون الدولة لا يدينون بحصرية الإنتماء إليها، ما دامت السلطة التي تشرف على تعيينهم هي المرجعيات السياسية والمذهبية والحزبية، فإذا الإدارة أيضاً قد تمذْهَبتْ على صورة مرجعياتها، مثلما هي حال كلِّ ما على الأرض من مناطق ومرافق، وحتى العلَمُ أصبح مجموعة أَعلام مذهبية، لكلِّ حزب مذهب، ولكلِّ مذهب علَم ولكل علمٍ لون.
ومن المؤسف أيضاً، أن المرجعيات المذهبية تكوَّنت ثنائياً في شكل مترابط بين ما هو مذهبي وما هو عائلي.
في دراسة إحصائية للدكتور أنطوان مسرّة: أنَّ 26 عائلة منذ سنة 1920 توارثت الوظائف السلطوية في الدولة.
ولم يذكر الدكتور مسرّة: أن ثقافة التوريث العائلي تعود الى سنة 1890 حين عيّن المتصرف واصا باشا صهره «كريكور كوبليان» في مركز أتاح له بيع الوظائف الرئاسية بالمزاد العلني، فاشتهر حكمه بالفساد مثلما اشتهر موته بقصيدة مطلعها: «رنُّوا الفلوسَ على بلاطِ ضريحه..»
ولعّل مأثرة واصا باشا كانت لها مفاعيلها العالمية، فاقتدى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حين عيّن صهره «جاريد كوشنير» في مركز رفيع في البيت الأبيض، مثلما عيّن رئيس دولة آذربيجان «إلهام غلييف» زوجته نائباً له بصفته رئيساً للجمهورية وفق التعديل الدستوري سنة 2016.
هذا النمط من التعيينات يجعل: «المصالح السياسية الفاعلة في المجتمع مصالح فئوية وعائلية، ويصبح معها: «وجود مصلحة قومية أو مصلحة عامة مجرد حيلة وخدعة» على ما يقول ديفيد ترومان في كتابه العلم السياسي.
ما دام هذا العهد قد تعهَّد التغيير والإصلاح - ونحن به متفائلون - فإنْ لم تكن الجدارة الشخصية مقياساً للوظيفة عبر مجلس الخدمة المدنية، فستبقى هذه الدولة تعاني التكاسل وانعدام الفحولة، على غرار ما كان من فحولة ثـور عكار.