تدخل الحرب الدائرة في سوريا عامها السابع وقد تغيرت معطيات كثيرة في خارطة الصراع العسكرية والسياسية. بات الصراع أبعد ما يكون عن النهاية بعد أن انقسمت سوريا إلى مجموعة من الجيوب يحكمها أمراء حرب وقيادات معارضة. وطرأت تغييرات على معادلات الخصوم والحلفاء. وتعددت منابر المفاوضات.
وفي حين لا تعتقد سوى قلة قليلة من المراقبين المحايدين بإمكانية انتهاء الصراع قريبا فإن لا أحد تقريبا يعتقد أن بوسع بشار الأسد استعادة السيطرة على البلاد بأكملها، كما أن لا أحد يتوقع التوصل إلى اتفاق سلام قريب، إذ يبدو أن أغلب الأطراف الخارجية تأقلمت مع فكرة بقاء الرئيس السوري.
ويتوقع كثيرون في أحسن الأحوال هدنة تخضع للمراقبة لفترة طويلة من الوقت في مساحة كبيرة من الأراضي السورية التي ستقسم فعليا بين القوى المتناحرة. الأمر الذي يخيّب أمل الكثير من السوريين، الذين خرجوا قبل ست سنوات في احتجاجات ضد ممارسات النظام، وانتهى ببلادهم المطاف لتشهد إحدى أكثر الحروب الطاحنة في القرن الحادي والعشرين.
خلال مفاوضات متقطعة دارت على مدى خمس سنوات بين الحكومة والمعارضة تحت رعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا والآن برعاية روسيا وتركيا كان رحيل الأسد هو نقطة الصدام الرئيسية التي تعيد المفاوضات إلى نقطة الصفر.
ويقول روبرت فورد، السفير الأميركي السابق لدى دمشق، والذي استقال احتجاجا على تردد الرئيس السابق باراك أوباما في الشأن السوري ولا يزال على اتصال بالكثير من أطراف الصراع “علينا أن نكون واقعيين. فهو لن يرحل.”
وفي مارس 2011، كانت انتفاضات الربيع العربي قد أطاحت بالفعل بالرئيسين التونسي والمصري، وأسقطت نظامي الحكم في ليبيا واليمن؛ أما في سوريا فتحول الأمر إلى حرب لا هوادة فيها عندما رد الأسد باستخدام القوة دون قيود، بحسب ما أوضح تقرير للجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة ضمن مصادر أخرى عديدة.
جوشوا لانديس: العالم الغربي كله يرفض الأسد وسيضغط عليه اقتصاديا
وتنبّأ زعماء غربيون من بينهم أوباما بأن الأسد سيسقط بسرعة. غير أن الأسد، الذي تحكم عائلته البلاد منذ 40 عاما، استمر في موقعه بفضل استخدام موارد الدولة والدعم الذي تلقاه من إيران وحزب الله اللبناني وقاتل المعارضة التي مولتها العديد من الدول العربية ليصل الوضع إلى طريق مسدود. وقبل عام ونصف العام شاركت روسيا في الحرب إلى جانبه لتتحول كفة الميزان إلى صالحه.
وساندت معظم القوى الكبرى في العالم والدول الإقليمية قوات تعمل لحسابها في صراع معقد متعدد الأطراف انقسمت فيه المعارضة بين معارضة وطنية ومعارضة دينية تتمثل في التيار السلفي ثم انقسم كل معسكر إلى جماعات أخرى.
وفي الوقت نفسه أعلن المتشددون الإسلاميون في تنظيم الدولة الإسلامية، المفترض أنهم العدو المشترك للأطراف الأخرى، عن قيام دولة الخلافة الإسلامية في الأراضي التي يسيطرون عليها في سوريا والعراق.
وازدحمت ساحة المعركة بالأطراف الدولية متمثلة في روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا. وظل الأسد في موقعه يردد أنه “سيستعيد كل شبر في بلاده” التي حلّ بها دمار واسع جراء الحرب التي سقط فيها نحو نصف مليون قتيل وأدت إلى نزوح نصف السكان عن ديارهم، وتسببت في أسوأ أزمة لاجئين في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
أوجه شبه مع لبنان والعراق
منذ دخلت روسيا طرفا في المشهد السوري قبل 18 شهرا صعد الأسد من وضع كانت فيه قواته المرهقة على حافة الانهيار وذلك بدعم من إيران ومقاتلين شيعة من جماعات مثل حزب الله ليصبح في وضع قوي عسكريا.
وكان في استعادته السيطرة في ديسمبر 2016 على جيب المعارضة في مدينة حلب، أكبر المعاقل الحضرية للمعارضة، نقطة تحول كبرى في الحرب وحصرت المعارضة في إدلب تقاتل جماعاتها بعضها بعضا.
وأصبحت سوريا تواجه الآن وضعا قد يشبه وضع لبنان في مراحل عديدة من حربها الأهلية من 1975 إلى 1990 عندما انقسمت إلى جيوب للميليشيات المتصارعة شهدت خلالها البلاد فترات طويلة من الهدوء على صعيد العمليات الحربية تخللتها العديد من الأحداث المروّعة.
وربما تشبه سوريا في جوانب أخرى العراق، بعد حرب الخليج الأولى، التي أبقت على صدام حسين في السلطة وأثارت شكوكا في مدى شرعيته مع تقييد اقتصاد بلاده بالعقوبات.
ولا يتوقع آندرو تيبلر، المتخصص في الشأن السوري بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن يضغط أحد على الأسد لا سيما حلفاؤه في روسيا وإيران لترك الرئاسة، لكنه يتصور ما قد يكون بديلا لتغيير النظام.
ويقول آندرو “لا أتوقع أن تطلب منه روسيا أو إيران أن يتنحى لكن علينا أن نتأهب لاحتمال أن يتعرض الأسد في هذا المناخ المتقلب للاغتيال بسبب كونه شخصيا حائلا أمام التسوية.”
وقد سُئل الأسد نفسه في مقابلة عمّا إذا كان يفكر في الرحيل عن سوريا؟، فرد بالنفي قائلا إنه بعد ست سنوات مرّت عاش خلالها أصعب الأوقات وكان أصعبها بين 2012 و2013، وإنه لم يفكر في الرحيل في تلك الفترة فكيف يفكر فيه الآن.
ويرى السفير السابق فورد، الذي كان يتوقع حتمية انتهاء حكم الأسد، أن نقطة الضعف في وضعه الحالي الذي يبدو حصينا تتمثل في أن خصومه لن يقبلوا قط باستمرار حكمه.
صورة تتكرر في أكثر من مدينة سورية
مصالح متقاربة
في مقابل كل ذلك، يظهر ما يبدو أنه إجماع دولي جديد يساند قوات الأسد عمليا متمثلا في الأحداث الجارية حول مدينة منبج الشمالية.
وانتزع هذه المدينة من أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، في العام 2016، مقاتلون أكراد تدعمهم ضربات جوية أميركية. وشكل الأكراد الجانب الأكبر من قوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بدعم من الولايات المتحدة وتضم وحدات حماية الشعب التي تربطها صلات بحزب العمال الكردستاني.
ودفعت تركيا التي تقاتل حزب العمال منذ أكثر من 30 عاما بقواتها إلى المنطقة في أغسطس إلى جانب مقاتلي الجيش السوري الحر الذي دعمته في مواجهة الأسد. وكان هدفها المعلن هو تطهير المنطقة الحدودية من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية ومنع تحقيق وحدات حماية الشعب لمكاسب على الأرض وهو الهدف الأهم بالنسبة إليها.
وبدورها دعمت روسيا القوات السورية في التحرك باتجاه منبج المتاخمة لأراضي وحدات حماية الشعب. غير أن الولايات المتحدة أرسلت وحدة مدرعة صغيرة للفصل بين حلفائها من الأتراك والأكراد، وهو ما يعني في واقع الأمر الإقرار بتحرك القوات السورية صوب منبج.
ويظهر ذلك كيف تنجر بعض القوى الدولية الرئيسية في سوريا، مثل روسيا والولايات المتحدة وتركيا، عضو حلف شمال الأطلسي، إلى وضع غير مريح تقف فيه صفا واحدا رغم التنافس الشديد في ما بينها واختلافها على كيفية تسوية الحرب السورية.
ويرى كثيرون أن منبج ستغير قواعد اللعبة بعد ما ظهر من توقعات بتقارب روسي أميركي في أعقاب انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.
ويقول تيبلر “لو أنك إيران وروسيا وتعلم حدود القوى البشرية لدى الأسد وتصلبه السياسي، فلديك مشكلة. وعليك أن تبرم صفقة حتى لا تضطر إيران وروسيا لزيادة القوات في سوريا وتلك هي معضلتهما”.
ويقول فورد، بعد أن أجرى مناقشات مؤخرا مع خبراء روس، إنهم يعتقدون أن الجيش السوري مرهق ولن يكون بمقدور الأسد استعادة السيطرة على بلاده.
وفي ظل هذا تصبح النتيجة المرجحة هي استمرار التقسيم الفعلي لسوريا. ورغم أن الحدود غير مستقرة فسيحتفظ الأسد وحلفاؤه على الأرجح بالسيطرة على حلب في الشمال حتى درعا في الجنوب بما في ذلك المنطقة الساحلية والعاصمة دمشق.
وتحتفظ تركيا وقوات درع الفرات بجيب في أقصى الشمال بينما تحتفظ المعارضة المتحالفة معها بجيب كبير في إدلب إلى الغرب من حلب. وتسيطر وحدات حماية الشعب الكردية السورية على إقليمين في الشمال الشرقي وعفرين في الشمال الغربي.
ويزيد من هذا الوضع غير المستقر اعتماد الولايات المتحدة على وحدات حماية الشعب الكردية في الحملة التي بدأت تتكشف فصولها لاستعادة الرقة.
وقال جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما، إن قوى كانت تطالب بإسقاط الأسد تزداد تقبّلا لفكرة استمرار حكمه ولو بشكل ضمني.
غير أن لانديس وآخرين يرون أنه حتى إذا كانت الولايات المتحدة وروسيا وجيران سوريا يقبلون بقاء الأسد في جزء من سوريا، فليس معنى ذلك أنهم سيحتضنونه أو يسددون فاتورة إعمار سوريا.
ويضيف “العالم الغربي كله يرفض الأسد وسيضغط عليه اقتصاديا.. سيصبح مثلما كان العراق في عهد صدام حسين”.