من الخطأ الشديد ومن التسرّع الأشد خطأً اعتبار المواجهة السياسية التي يقوم بها حاليا ديكتاتور تركيا رجب طيِّب أردوغان معركة ستقف حدودها عند التصعيد الديبلوماسي بين الدولة التركية وبين عدد من دول شمال أوروبا وتعود الأمور إلى سابق عهدها كما حصل في التصعيد التركي مع روسيا الذي بدأ أكثر دراماتيكية مع إسقاط الطائرة الروسية.
طموحات أردوغان السلطوية المتفاقمة تنتقل الآن إلى ملعب خطير يتخطى مجرد الاستهدافات السياسية. إنه ملعب العلاقات بين مسلمي أوروبا الغربية وبين بلدان إقامتهم في مناخ من التأزم العميق للعلاقات المسلمة المسيحية في العالم وخصوصاً الغربي.
سواء يرى رجب طيِّب أردوغان ذلك أو لا يراه ولا يأبه بمساره فهو يستثمره في مشروع تعزيز قبضته على تركيا وقد قطع شوطا بعيدا في خلق مناخ من الظلمة التي تهيمن على الحياة العامة في هذا البلد الذي كان يمثِّل ذات يوم أمل المسلمين في المصالحة الناجحة بين الإسلام والحداثة. كان تمثيلاً لم تتمتّع به أية دولة مسلمة أخرى في العقود الأخيرة. لا إيران حيث التشدد بل الرجعية الدينية والريعية النفطية، ولا باكستان حيث الهُزال الاقتصادي الشديد والتوتر الأمني الأصولي المذهبي، ولا مصر المنشغلة بديموغرافياها الضخمة وضعف هيكليتها الاقتصادية وفكَّيْ الضغطين المعيشي والإرهابي ولا أي دولة أخرى في العالم المسلم الشرق أوسطي والإفريقي. كانت تركيا العلمانية الأتاتوركية وحدها تُواصل "ثورة" هادئة صاعدة وغير أيديولوجية من حيث تحديث الإسلام وأسلمة الحداثة.
كل هذا أنهاه أردوغان بين 2013 وبين 2016 بعد سنوات ناجحة من التطوير الاقتصادي قادها هو وأطلقها جيل سابق بقيادة الرئيس توركوت أوزال في الثمانينات من القرن العشرين ورث محاولات تحديث أجيال سبقته منذ عام 1923.
رجب طيِّب أردوغان اليوم في 2017 ينقل معركته إلى قلب حياة مسلمي أوروبا وليس أتراكَها فقط غير عابىء بمعضلات تصاعد الوعي المتأزم لدى المسيحية الأوروبية والأميركية بعلمانييها ودينييها حيال ضرورة إعادة تنظيم موضوع استيعاب ملايين المسلمين داخل نموذج للحياة الديموقراطية منحهم ومنح مبدعيهم بالنتيجة فرص تكوين وعمل وحياة لا يتمتع بها المسلمون في بلدانهم الأصليّة. هو وعيٌ متأزم يلعب فيه الصعود ولو الأقلوي عدديا لإسلام بأيديولوجيا متوحشة يقودها تكفيريون متوحشون، دورا قاتلا في إثارة ذعر الأوروبيين الأصليين ويدفعهم نحو أحضان اليمين القومي المتطرف في أكثر من بلد غربي. يمتدُّ ذلك من الولايات المتحدة إلى فرنسا مرورا بألمانيا والدانمارك والسويد وهولندا، وهولندا هي دولة كبيرة في عالم اليوم المتقدم رغم حجمها الديموغرافي الصغير ويكفي للتذكير أن ناتجها القومي العام يفوق مداخيل كل دول النفط العربي.
بدل أن يطل علينا اخيرا ديكتاتور إسلامي كأردوغان بلباس "بطل" قومي وديني يفسد حياة ملايين أتراك أوروبا ومسلميها كان من المفترض أن نشهد حضور شخصيات مسلمة بما فيها عربية، زعامات سياسية وثقافية تعي حجم الأزمة العميقة للعلاقات المسلمة المسيحية في الغرب وتلاقيها في أوروبا وأميركا شخصياتٌ ومفكرون مسلمون غربيون، بعضهم انتقل إليه تجديد الفكر الإسلامي بل توليد مشروع "إسلام غربي" في مقابل جمود المؤسسات الدينية الشرقية...
بدل ذلك يحتل الساحة في أوروبا ديكتاتور شعبوي يلعب بالشعار الديني كما لعب سابقا بالورقة الداعشية ويدعي التراجع عنها اليوم.
ستنتهي الانتخابات الهولندية وحتى الفرنسية والألمانية وغيرها وقد يتقدّم عدد نواب اليمين المتطرف ويحصل أردوغان في تركيا على مراده من "الأكثرية" الشعبية التي يستخدمها واستخدمها لقمع معظم النخب في تركيا... ولكن السؤال الذي يجب أن يطرحه على أنفسهم بعض أولئك المؤيدين لأردوغان تحت نشوة انتصار وهمي أنه "يرفع رأس المسلمين"، هذا السؤال أبعد من أنوفهم المزكمة برائحة الموت الفظيعة التي تدمِّر الشرق الأوسط اليوم: ماذا بعد الاستخدام الشعبوي والتعبوي لجماهير مسلمة مندمجة في نظام الرعاية الاجتماعية لهذه الدول المتقدمة؟
الآتي أعظم بالمعنى الخطر العميق للكلمة.
أوروبا على مفترق طرق لا يمكن أن ينتج عنه سوى مراجعة شاملة بما فيها حيال كِتَلِها المسلمة لا نعرف أين ستصل تداعياتها رغم أن المجتمعات الأوروبيّة ذات ثقافة ديموقراطية وعقلانية ومسؤولة.
أردوغان الذي يريد أن يصبح "بطلا" إسلاميا هو فعلا بطل أناني وأحمق في عالم صار من المستحيل فيه ولادة محمد الفاتح أو صلاح الدين آخر، بسبب حجم التفوق الحضاري علميا وثقافيا الغربي. وسيثبت بالنتيجة أن رجب أردوغان ليس فقط ديكتاتورا أنانيا وخطرا بل هو دونكيشوت كبير معاصر شديد الإذية على مستقبل تركيا ومسلمي أوروبا ومسلمي المنطقة.
هذه لحظة استنفار لقوى وطاقات "الإسلام الأوروبي" لكي يتمكن من الحد من جهة من ازدياد اشتعال النار الدينية بين المسيحيين والمسلمين الأوروبيين، ومن جهة ثانية الاستمرار في تطوير علاقات اندماج للمسلمين داخل هذه المجتمعات التي لجأوا إليها وأعطتهم وأعطوها.
أقول في نهاية هذا المقال باللغة التركية حسب ترجمة بعض الأصدقاء: Haddını aşma
أردوغان قِفْ عند حدِّك.