في سياق إعلانه عدم نيته الترشح لولاية رئاسية ثانية قبل فترة، أشار رئيس الجمهورية ميشال عون إلى أهمية من سيأتي بعده، أو إلى خليفته في الموقع الأول في الدولة. وإذا كانت بعض القوى السياسية تتعاطى مع مسألة قانون الانتخاب من باب الحفاظ على نفسها وقوتها ووجودها التمثيلي، فإن الوزير جبران باسيل يفكر في ما هو أبعد من ذلك. في مفهوم عون، باسيل هو الوريث الأفضل لخلافته في الجمهورية، كما كان الوريث الأفضل في التيار وتكتل التغيير والإصلاح. بالتالي، فإن المهندس البتروني الشاب والذكي، كما كان يصفه عون في التسعينات، هو كاتم أسرار الجمهورية حالياً. وهو الذي يحظى بكل الدعم من رئيسها.
يتابع باسيل مسيرة عون بخطى حثيثة ودقيقة. يحمل نفس اللهجة والأسلوب، حتى وصل عون إلى مكان ينظر فيه إلى باسيل على أنه هو في صباه وشبابه. سابقاً، عطّل عون حكومات وجلسات نيابية كرمى لعيون باسيل. واليوم، الوزير الشاب مستعد لعرقلة كل شيء في الدولة في سبيل تحقيق ما يريد. في المسار السياسي العوني الطويل، هناك ثابتة لازمت عون، لم يتخلّ عنها، هي فتح النار على الخصم، لجعله في موقع المدافع وعدم السماح له بالهجوم. وهذا وحده كفيل أن يجبر الخصم على السعي للتواصل والبحث عن التسوية.
هذا النهج أدى إلى انتخاب عون رئيساً للجمهورية، بعدما نجحت القاعدة، التي استمرّت لسنوات طويلة ضد تيار المستقبل، عبر توجيه اتهامات بالفساد وانتهاك مؤسسات الدولة والمال العام، وصولاً إلى حد التهديد بالإطاحة بإتفاق الطائف. ما وضع تيار المستقبل دوماً في موقع المدافع عن نفسه والباحث عن تبريرات لردّ الاتهامات. كما هي الحال في مواقف باسيل الخارجية، وتحديداً في الجامعة العربية والأمم المتحدة، والتي أعتبرت موجهة ضد دول الخليج وضد مصالح الدول العربية، إذ كان باسيل ينتظر أن ترتد عليه إيجاباً لا سلباً. وهذا ما تحقق بالنسبة إليه، بالإنفتاح الخليجي على لبنان منذ انتخاب عون رئيساً، والإستقبال الذي حظي به رئيس الجمهورية لدى زيارته المملكة العربية السعودية ودولة قطر. مع كل موقف، كان باسيل يقول إنهم سيضطرون إلى تغيير موقفهم تجاهنا لنغيّر موقفنا تجاههم. ونجح في رهانه.
وهذا ما يريد باسيل استكماله في مرحلة ما بعد ولاية عون. في نظر باسيل، من ورث التيار والجمهور والتكتل والإسم والشعار، لا شيء يحول دون وراثته الكرسي الرئاسي أيضاً. وبما أنه نجح في تكريس مفهوم انتخاب المسيحي الأقوى رئيساً للجمهورية، يسعى منذ انتخاب عون إلى التحضير للمرحلة التي تلي ولايته. وهذا ما بدأه خلال تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري، إذ وضع فيتوات على حصول تيار المردة على حقائب أساسية أو سيادية، فيما تكفّل حزب الله بحجب الحقائب السيادية عن القوات اللبنانية.
اليوم، يستكمل باسيل حياكة خطّته في قانون الانتخاب، عبر الضغط لفرض قانون مفصّل على قياسه سواء في البترون أم على قياس التيار في كل لبنان. هكذا، جاءت الصيغة التي اقترحها في توزيعها الدوائر بين النسبي والأكثري، بحيث حافظ على قانون الستين الأكثري في الدوائر المسيحية الصرفة والمضمونة، وعمل على إدخال النسبية إلى الدوائر المختلطة. ولهذه الصيغة هدفان. الأول قطع الطريق على حصول النائب سليمان فرنجية على كتلة نيابية، ليسحب منه الشرعية المسيحية، خصوصاً أن السيد حسن نصرالله والرئيس سعد الحريري اعتبرا أن الرئاسة لاتزال أمام فرنجية، وقد تؤول إليه بعد عون. كما أنه سعى إلى إبقاء نفسه رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية، إذ إنه رغم الزيادة المتوقعة في عدد نواب القوات، بفعل التحالف، فإن باسيل يضع نصب عينيه ألا تحصل القوات على أكثر من 17 نائباً، مقابل أن يحصل تياره على 27. وبذلك يكون هو المرشح الأقوى للرئاسة بفعل الأصوات.
لكن هذا الهدف دونه عقبات. ففرنجية لن يتنازل في المرة المقبلة، وهو لديه تحالف عريض يدعمه. كما أن سمير جعجع لم يتحالف مع عون، وكان داعماً له في الانتخابات الرئاسية، ليكون باسيل خليفته، إنما ليكون هو الوريث، ولاسيما في ظل إنفتاحه المرتقب على حزب الله، وتعزيز التعاون بينهما. عليه، فإن الصراع المقبل سيكون بين باسيل وجعجع. وأولى ترددات هذا الاختلاف بدأت من خلال مواقف باسيل التصعيدية والتعارض في مسألة خصخصة الكهرباء، وانفجر أخيراً برسائل علنية وسريّة بين الطرفين، على خلفية التعيينات، وعلى خلفية الانتخابات في منطقة البترون.
الرسالة الأخيرة التي أراد باسيل توجيهها إلى الجميع، كانت في مؤتمر التيار العام يوم الأحد حين قال: "لا يوجد قانون انتخابي لمصلحة رئيس التيار ولا يوجد تحالف انتخابي لمصلحة رئيس التيار، ولا يوجد انماء لمصلحة رئيس التيار والذي يخيط بهذه المسلّة فليُخيّط بغيرها، لا أحد يبتزّنا لا بالانماء ولا بالانتخابات. إنما أراد القول أن ليس مقعده النيابي هو الذي يحدد مستقبله السياسي، إنما وجوده على رأس أكبر كتلة مسيحية.