السياسة الإيرانية في المنطقة العربية، في أحسن الأحوال، لم تحسن الحساب وهي تدخل إلى البيئة العربية، لقد عززت من الخطاب المذهبي، وحوّلت الشيعة في هذه المنطقة العربية إلى مجموعة محاصرة ومنعزلة ومختلفة عمّا حولها، وعاجزة عن الاندماج في كياناتها الوطنية، واعتمدت الأيديولوجيا الإيرانية التي يمثلها نظام الحكم اليوم، سياسة اللعب بالتاريخ والحقائق، وتطويعهما ليتناسبا مع الأيديولوجيا ومصالحها.
لقد أوجدت أزمة عميقة مع الواقع العربي السني، حين أتاحت من جهة العبث العلني بالرموز الإسلامية الأولى للسنّة من الخلفاء إلى الصحابة وغيرهم، في الوقت الذي طوّعت العقيدة الشيعية الإمامية لتتناغم مع من هم أبعد عن عقائد الشيعة الإمامية أي العلويين وأتباع المذهب الزيدي كما يقرّ كبار فقهاء الشيعة في التاريخ الإسلامي، فيما سعت هذه الأيديولوجيا في نفس الوقت إلى تعميق الشرخ مع أتباع المذاهب السنية، إذ لا نعثر اليوم في أدبياتها وثقافتها التي جرى ترويجها لدى الجماعة الشيعية على أيّ إشارة إلى أنّ أتباع الطائفة العلوية أو أتباع “الزيدية” هم من أشدّ المذاهب عداء للعقيدة الشيعية بعد انشقاقهم عن المذهب، فيما تنشط هذه الأيديولوجيا بكل وسائلها لفتح جدال حول قضايا خلافية بين السنّة والشيعة، عبر النيل والتهوين من شأن الرموز التاريخية لأتباع هذه المذاهب.
أمرٌ آخر يمكن أن نلاحظ من خلاله هذا الخلل في الحسابات الإيرانية تجاه المنطقة العربية والبيئة الثقافية والاجتماعية فيها، برز بشكل فاقع مع بداية ثورات الربيع العربي قبل ست سنوات، حيث هلّلت القيادة الإيرانية للانتفاضات في المنطقة العربية، لكنها حرصت على تسمية هذه الثورات بالصحوة الإسلامية، وسارعت إلى عقد مؤتمرات ومهرجانات دعت إليها عرباً ومسلمين، لا بهدف دعم الثورات كما أعلنت عن نفسها، بل في محاولة خبيثة لتقويض مصطلح الربيع العربي، وفرض مصطلح الصحوة الإسلامية على الانتفاضات من تونس إلى مصر وليبيا.
هذا السلوك الذي اعتمدته الأيديولوجيا الإيرانية في البداية ما لبثت هي نفسها أن وقفت في وجهه، عندما أدانت تعبيراته الإسلامية، وراحت بسبب عدم قدرتها على احتوائه والسيطرة عليه إلى تبني الإرهاب كوصف لما كانت سمته صحوة إسلامية، بعدما انحازت إلى سلطة الاستبداد في سوريا، أو السلطة العلوية أو ما يمكن أن نسميه حكم البعث في أحسن الأحوال داخل سوريا.
بسبب ما تقدم فشلت الأيديولوجيا الإيرانية في إيجاد واقع مستقر في المنطقة العربية. فشلت في العراق بعد الخروج الأميركي منه، وأنتجت سياساتها في هذا البلد تنظيم داعش.
وفشلت في لبنان، ولم تستطع من خلال حزب الله إيجاد صيغة تقوم على مرجعية الدولة، بل صنعت صيغة لا تنتج إلا الأزمات ولا تعِدُ بأيّ حلول بل بالمزيد من الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، عبر ترسيخ أسوإ نموذج حكم مر به لبنان في تاريخه الحديث.
وحتى في اليمن لم يطرح التدخل الإيراني وتمدده إلا مشروع نفوذ يرتكز على ذهنية مذهبية عاجزة عن أن تخاطب اليمنيين بغير الشعارات والعنتريات التي تزيد من الشروخ الوطنية، من دون أن تقدم أيّ مضمون سياسي لإجماع وطني يتجاوز النزعة المذهبية أو القبلية.
هذه الحسابات الإيرانية التي استنفدت المذهب الشيعي في العالم العربي، وامتصت إمكاناته، فقط في سبيل إيجاد بؤر أمنية وأيديولوجية لها في هذه المنطقة العربية، هي اليوم أمام مأزق عجزها عن استثمار هذه البؤر التي باتت اليوم أكثر ميلاً لإعادة بلورة نظام مصالحها الوطنية، بعدما تبيّن أنّ السياسات التي اندفعت أو دُفعت إليها في السنوات الماضية حصيلتها المزيد من الانهيار والانحدار.
القيادات العراقية الشيعية على اختلافها اليوم لم تعد حريصة على تكرار زيارة طهران لتثبيت سلطتها في العراق، كما كان الحال منذ العام 2003 وبعد العام 2010، فيما وفر الانخراط الأميركي في قتال تنظيم داعش ودعم الجيش العراقي وحكومة حيدر العبادي، وإعادة الحياة إلى العلاقة مع السعودية، فرصة لإعادة الاعتبار إلى الحيز الوطني العراقي، بعدما أدى الانصياع الكامل للإستراتيجية الإيرانية، إلى نتائج وخيمة على الاقتصاد وعلى وحدة البلد، وساهم في زيادة تصدع الدولة وبروز تنظيم داعش الذي تمدد في مرحلة الاعتداد الإيراني باكتمال الهلال الشيعي.
الفضيحة الإستراتيجية الإيرانية هي في المعادلة السورية، تلك التي بذلت إيران كل رصيدها من أجل المحافظة على نفوذها فيها وعلى حكم البعث، وحكم الأقلية العلوية، فما قدمته إيران من مال ومن دماء الميليشيات الشيعية ومن رصيدها لدى الشعوب العربية لم تبذله أي دولة، سواء دعمت نظام بشار الأسد أو دعمت معارضيه، لا يمكن مقارنة الخسائر التي قدمتها إيران في سوريا بخسائر الدول الخليجية وتركيا وروسيا، مجتمعة. بعد عشرات المليارات من الدولارات، ونحو عشرة آلاف قتيل من الميليشيات الشيعية وأضعاف هذا العدد من الجرحى، لم تنجح إيران في أن تفرض نفسها كمرجعية، بل هي من استنجد بالتدخل الروسي وسلمت صاغرة مقاليد الوضع لموسكو.
روسيا كانت أكثر دقة في حساباتها السياسية، وأكثر وعيا بمصالحها الإستراتيجية في المنطقة العربية، فرغم الدموية التي اعتمدتها في ضرب معارضي الأسد، إلاّ أنّها تشبثت بالدبلوماسية، فهي في لحظة إنجاز انتصارها في حلب، سارعت إلى فتح أوسع قنوات التواصل والتعاون مع تركيا، وعززت علاقاتها مع أطراف المعارضة المسلحة في هذه اللحظة التي كانت فيها السياسة الإيرانية تريد الذهاب بعيداً في القضاء على كلّ معارضي الأسد، لم تستجب روسيا، ليس لأن الإيرانيين أقرب إلى الأسد من الروس، بل لأنّ منطق السياسة ومصالحها يفرضان أنّ المعارضة السورية مهما كانت ضعيفة أو هشّة أو منقسمة، هي وحدها من يمثل المكوّن السني ويستحيل أن يكون الأسد ممثلاً له، فالأسد في أحسن أحواله لا يمكن أن يكون إلاّ ممثلاً للمكون العلوي.
على هذا المنوال من الحسابات السيئة، والفهم الناقص للبيئة العربية، يتراجع النفوذ الإيراني الذي يبدو اليوم منصاعاً لا مختارا لمعادلة توازن مرجعيتها روسيا في المعادلة السورية، فسوريا انتقلت اليوم إلى مكون آخر ليست إيران مرجعيته، إذ أن موسكو منذ تدخلت عسكرياً في سوريا، لم تكن متعارضة مع الموقف الأميركي، بل نسقت في العديد من الخطوات معه، التزمت أيضاً بالمصالح الإسرائيلية في سوريا، ومنعت نشوء نفوذ إيراني على حدود الجولان، وجاء التنسيق الروسي- الإسرائيلي، في أعقاب خسائر أنهت كل رصيد المقاومة الذي امتلكه حزب الله لدى البيئات العربية، صار حزب الله عاجزاً عن خوض مغامرة حرب مع إسرائيل كما جرى في العام 2006، فهذه المغامرة كانت رغم كارثيتها ممكنة في حينه، يسندها رصيد في الوجدان العربي، ومصالح سوريا حين كانت لما تزل دولة وقوة إسناد له، ويسندها تحالف كان مع حركة حماس في حينه، فيما العلاقة اليوم مترددة معها في أحسن الأحوال.
فقد حزب الله كل هذه الأرصدة، ويدرك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أنّ حاضنته الشيعية عاجزة عن تحمل حرب مكلفة جداً وهذه وحدها كافية لتلجم حزب الله عن تكرار أيّ مغامرة أو خطأ يمكن أن يفجر الحرب مع إسرائيل في لحظة تربص به من كل ما يحيط به وببيئته لبنانياً وسورياً، وهذا بحد ذاته ما يلبي مطلباً إسرائيليا حين تصبح الحاضنة الشيعية وحزب الله نفسه، من أشدّ الحريصين على استقرار الجبهة مع إسرائيل، أما عنتريات الحزب فهي لزوم حماية معادلة الاستقرار مع إسرائيل لا تقويضه.
في هذه الوقائع الإيرانية غير المطمئنة؛ لا في سوريا ولا في العراق ولا في الحلقة اللبنانية، برز أخيرا ما يؤشر على نوع من الانفلات المسيحي من القيد الإيراني، عبّر عنه بطريرك الموارنة بشارة الراعي قبل يومين، في أول موقف له يتسم بنبرة جديدة ترفض تدخل حزب الله في سوريا، حين قال إنّ تدخل حزب الله في القتال في سوريا “قسّم اللبنانيين”، وأضاف أنّ “حزب الله خرج على سياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها الدولة اللبنانية عبر إعلان بعبدا تجاه الأزمة السورية”.
تصدع الهلال الإيراني في المنطقة العربية واهتراء حلقاته يفاقمان أزمته اليوم، وهو تصدع لم يتأت من عوامل خارجية، بقدر ما كان نتيجة خيارات أقل ما يقال فيها تفتقد إلى فهم المنطقة العربية. وما يفاقم أزمة هذا الهلال الشيعي كما يسميه البعض أنّ السياسة الأميركية تجاهه لم تعد كما كانت، فسياسة الاحتواء التي اعتمدها الرئيس السابق باراك أوباما تجاه إيران، انتهت اليوم، في ظلّ نزعة عدائية تعبر عنها كل عناصر الإدارة الأميركية الحالية تجاه طهران، وعلى رأسها دونالد ترامب، وهي سياسة وإن لم تتضح خططها وتفاصيلها بعد، إلاّ أنّها مسكونة بالرغبة في استعراض القوة، وهي أقل عقلنة وتردداً من سياسة أوباما، وما يربك إيران أكثر أنّ ترامب أكثر ليونة من سلفه تجاه دول الخليج، ولم يصدر عنه أيّ موقف يُشتمّ منه نوع من المناكفة مع دول الخليج التي استثناها من قرار منع دخول مواطنيها إلى أميركا، فيما إيران كانت على رأس لائحة الدول وربما هي المقصود من هذا القرار.