ربما سيذهب اسمُ "أردوغان" وصِفةُ "الأردوغانية" في التاريخ السياسي المعاصر كمرادف لكلمة "مخادع سياسي" أو "الخدعة السياسية الكبيرة" مثلما ذهب إسم السياسي الأميركي ألبريدج جيري في ولاية ماساتشوتس (أوائل القرن التاسع عشر) كمرادف لصفة التلاعب بحدود الدوائر الانتخابية وصار فِعْلُ "جيري ماندر" و"الجيري ماندرينغ" باللغة الانكليزية مرادفا، كما هو معروف، لكل ما هو تلاعب بحدود الدوائر الانتخابية لخدمة مصالح فئوية.
ستكون الأردوغانية، المشتقّة من سيرة الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان، عنوانا لكل خدعة تَحَوُّلِ رجلِ سياسة أو رجل دولة يأتي في انتخابات حرة باسم دَمَقْرَطةِ النضال ضد الوصاية العسكرية على السلطة ويتحوّل بعد السماح له بالوصول إلى ديكتاتور يفعل عكس ما كان يدّعيه في السابق.
تختلف الأردوغانية عن المثال التقليدي المجسّد بـ"الهتلرية". لأن هتلر وحزبه كانا ذوَيْ أفكار واضحة عنصرية وغير ديموقراطية قبل الوصول إلى السلطة وترشَّحا على أساسها. ارتكبت الهتلرية بعض أعنف مجازر وجرائم التاريخ ولكنها كانت سافرة الأهداف. أما الأردوغانية فهي خدعة كاملة لأن الأهداف المعلنة قبل الوصول إلى السلطة عام 2002 كانت مختلفة عما ظهر لاحقا ولا سيما اعتبارا من العام 2013 وآخِذة بالظهور أكثر. كانت تحمل رايات الشكوى من القمع والاستبعاد ورايات النظام العلماني والدعوة (النبيلة) إلى توسيع إطاره ليشمل قوى محافظة ذات جذور دينية تشبه أحزاب الديموقراطيين المسيحيين في أوروبا الغربية ولاحقا معظم أوروبا فتحولت إلى مشروع تغيير النظام ليصبح ديكتاتورية فردية مستندة إلى حزب ذي أفكار أصولية ضدْ - علمانية، نظام يدير أكبر عملية قمع شاملة، اعتقالا وتهجيرا، لعشرات الألوف من النخب الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية لا مثيل لها في التاريخ التركي المعاصر. عشرات ألوف من الضباط والصحافيين والقضاة والأكاديميّين والاقتصاديين والإداريين. كما تخوض حربا قومية تدميرية ضد مناطق الأكراد رغم وقوف الكثير من وجوه النخب التركية، ولا سيما الثقافية، ضد هذه الحرب وتجريمها.
إذن ليست الأردوغانية مجرد حالة ديكتاتورية بل هي، وأزعم كما ينبغي أن تُدرَّس في العلوم السياسية، مسار تحوُّلٍ بنيوي مخادع من حالة إلى حالة يقودها رجل وحزب. هذا معناها العام أما ما يمكن أن تختص به عربيا وإسلاميا أنها بالضبط تجربة استلام حركة "إخوان مسلمين" للسلطة ثم فعل كل شيء سيئ لعدم الخروج منها. هذا حصل في تركيا، لم تسمح له السيطرة العسكرية على السلطة في مصر وقبلها الجزائر أن يحصل. فرغم الاعتراضات الكثيرة على الممارسات غير الديموقراطية في الجزائر ومصر كان الكثير من الليبراليين واليساريين المعارضين لنظام الوصاية العسكرية على الحياة السياسية القائم يحذِّرون من أن وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة سيأتي بنظام أسوأ لأن مشروعهم الأصلي هو الاحتفاظ بهذه السلطة بأي ثمن إذا استطاعوا. (الممارسة "الإخوانية" في تونس هي استثناء تصالحي إيجابي ووحيد ومدعاة للإعجاب بقيادة الشيخ الغنوشي).
... نجحوا، أي "الإخوان"، في خطف السلطة في تركيا. ولكنْ أيُّ نجاحٍ مُدَوٍّ هذا؟ لأنه في تركيا كان هناك مشروع ديموقراطي تحديثي متميِّز عن كل محيطه المسلم والعربي ويتقدّم خطواتٍ جادة وبنيوية إلى الأمام رغم ثغراته الكثيرة وكان أبرز تقدّم حققه هو سماح النظام العلماني التركي عام 2002 في انتخابات كاملة النزاهة بوصول حزب إسلامي واستلامه السلطة المدنية وحده. حصل ذلك بعد مسار وصول جزئي في حكومة ائتلافية مرتين في السابق: السبعينات ثم التسعينات من القرن المنصرم وكلتاهما، السابقتان، كانتا بقيادة الزعيم التاريخي للتيار الإسلامي التركي نجم الدين أربكان. لكن الفارق بين أربكان وأردوغان أن الأول لم يكن خبيثا بالمعنى السياسي فشعاراته الراديكالية كانت معروفة قبل دخوله السلطة والمفارقة أنه التزم معايير النظام العلماني فيها. بينما الثاني دخل بثياب المظلوم ديموقراطيا وأصبح، كما هو الآن، وحشاً سلطويّاً شعبويّاً مفترساً افترس معه أهم ما كان لدينا كمسلمين في المنطقة، وهو النموذج التركي للمصالحة الديموقراطية بين الحداثة والإسلام، ولا مصالحة إلا بشرطها الديموقراطي. نموذج لم يكن يتوفّر في بلد مسلم آخر أنهاه السيد أردوغان. إذا دخلت "الأردوغانية" إلى القواميس فيمكن أن يقول ناشط في الشأن العام لآخر: دعكَ من هذه الأردوغانية والْعَبْ غيرها، أو سياسيٌّ لآخَر: أنت ترتدي ثيابا أردوغانية! وربما أصبح الأمر لاحقا: يا أردوغان، يعني يا مخادع!
في فيلم يجري عرضه في برلين حاليا وضعه مخرج تركي ويقوم بتمثيله ممثلون أتراك عن حياة الـ"ريِّس"، الكلمة التركية المأخوذة عن العربية على ما يبدو ومعناها الرئيس أو الزعيم... في هذا الفيلم واسمه "Reis" نَقَل مراسل "الغارديان" فيليب أولترمان الذي كان يشاهده، في عدد يوم الجمعة المنصرم أن الجمهور ( 38 شخصاً) كان معظمه من الشباب من أصل تركي ضجّ بالتصفيق أمام المشهد التالي:
محتجٌ ضد أردوغان حاول أن يهاجمه (في تلميح لمحاولة انقلاب الصيف الماضي) يصفعه رجل أمن من حرس الـ"ريِّس" على وجهه. فيسأل المصفوعُ الشرطيَّ: ومن تكون أنتَ؟ فيجيبه الحارس: أنا الشعب!
انتَبِهوا... الذين صفّقوا كان معظمهم من مؤيدي رجب طيِّب أردوغان لأن الفيلم هو جزء من حملة الترويج لمصلحة التصويت بنعم للاستفتاء المتعلّق بتحويل النظام السياسي التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي كما يفتح المجال لبقاء أردوغان في السلطة إلى عام 2029.
فقط تكرارٌ وتذكيرٌ بأن الذين صفّقوا للمشهد هم مؤيِّدو أردوغان. مما يكشف الثقافة التوتاليتارية للحالة "الشعبوية" لأن المفترض أن تكون دلالاته معاكسة. ونقترح بالمناسبة أن يُعرض الفيلم في صالة سينما في بيروت ليتمكن من يشاء من اللبنانيين، ونتمكن نحن الصحافيين بالتالي، من مشاهدته وتقييمه أيا يكن اتجاهه السياسي.
ومع التطورات المتلاحقة للسياسة التركية بات بإمكاننا أن نسأل: هل بدأت الأردوغانية تنتقل من "مدرسة" في الخدعة السياسية الكبيرة إلى نوع من الجنون السياسي؟