في العامين 2004 - 2005 كانت الظروف السياسية في لبنان على الشكل الآتي:
1- سلطة وصاية أمنية - عسكرية تمسك بمفاصل مؤسسات الدولة اللبنانية كافة وتختزل عملها وتملي عليها القرارات.
2- إلغاء عملي لمفاعيل الدستور والقوانين والإرادة الشعبية والنظام الديموقراطي في ملء سدة رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومات والانتخابات النيابية من خلال قوانين مفصّلة على قياسات أحزاب وقيادات وشخصيات تشكل جزءاً من المنظومة الممسكة بلبنان.
3- حالة من الفساد الإداري والمالي المستشري على حساب الخزينة والمالية العامة وبعض المؤسسات المصرفية (بنك المدينة نموذجاً) وتراكم العجز في الخزينة بفعل السمسرات وتحويل خزينة الدولة الى مموّل لأدوات نظام الوصاية السورية وامتداداته المحلية.
4- شعور لبناني بضرورة مواجهة نهج الوصاية القائم على وضع اليد على لبنان ودستوره من خلال تسعير المواجهات الطائفية والمذهبية على السلطة بين المسيحيين والمسلمين، ترجم باتصالات مسيحية - إسلامية لقيام تحالف إنتخابي في الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في العام 2005 لانتزاع أكثرية سيادية مسيحية - إسلامية تعيد قرار الدولة اللبنانية الى الشعب اللبناني.
5- أجواء عربية ودولية ترفض ترك لبنان فريسة لـ»النظام الأمني اللبناني - السوري» الذي كان يسعى لتكريس إلحاق لبنان «بنظام الرفض العربي» الذي كان يقوده نظام الرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة الشرعيتين العربية والدولية من خلال فرض التمديد لرئيس الجمهورية وفرض تشكيل حكومة مطواعة تمهيداً لإنتاج مجلس نيابي يكمل التمديد الرئاسي والترويض الحكومي.
واليوم، بعد اثنتي عشرة سنة كيف تبدو أوضاع لبنان؟
1- سلطة وصاية أمنية - عسكرية على مؤسسات الدولة اللبنانية أبقت لبنان من دون رئيس للجمهورية لأكثر من سنتين ونصف السنة، الى أن نجحت بفرض شروطها خلافاً لنصوص الدستور ولأصول الانتخابات الرئاسية بحسب الدستور اللبناني والنظام السياسي الديموقراطي البرلماني الحر.
2- إستبدال الدستور اللبناني والقوانين المرعيّة الإجراء في اتخاذ القرارات بتسويات سياسية بين اركان الوصاية الجديدة تحلّ مكان عمل المؤسسات الدستورية وآليّات عملها الديموقراطي.
3- فساد إداري ومالي مُستشر «على عينك يا تاجر» وباتت معلومات الهدر بالمليارات على كل شفة ولسان وعلى صفحات الصحف وفي وسائل الإعلام وكأنها من الأمور العادية التي باتت ترافق حياة اللبنانيين.
4- إنتخابات نيابية على الأبواب يسعى من خلالها أركان الوصاية الجديدة على النظام اللبناني الى استنساخ تجربة الوصاية السورية في تفصيل قانون انتخابي ينتج مجلساً نيابياً مطواعاً للمُمسكين بالسلطة السياسية والوصاية على قراراتها في المجالات كافة.
5- أجواء عربية ودولية مستاءة من محاولات السيطرة على قرارات الدولة اللبنانية ونقلها من قلب الشرعيتين العربية والدولية الى قلب محور «الممانعة والمقاومة» الإيراني الذي حلّ مكان نظام الرئيس بشار الأسد في استهداف العالم العربي ومصالحه والنظام العالمي الجديد.
في تشرين الاول 2014، كانت محاولة لاغتيال النائب والوزير مروان حماده في رسالة مشتركة الى النائب وليد جنبلاط والرئيس رفيق الحريري بضرورة وقف أيّ محاولات لمَدّ الخطوط مع الفريق المسيحي المتمثّل بلقاء «قرنة شهوان» الذي كان يرعاه البطريرك صفير تحضيراً للحصول على أكثرية نيابية «سيادية» في انتخابات ربيع 2005.
وفي 14 شباط 2015 اغتيل الرئيس الحريري لتوجيه ضربة قاضية الى الفكرة السيادية التي جسّدها مشروع الشراكة المسيحية - الإسلامية، فانتفض اللبنانيون وأخرجوا الجيش السوري من لبنان واستعادوا أكثرية نيابية سيادية!
إنّ مقارنة بسيطة بين ما هو قائم اليوم وما كان قائماً قبل اثنتي عشرة سنة تظهر أن لا شيء تغيّر: نظام وصاية على الدولة اللبنانية يحكم لبنان من خارج الأطر الدستورية، فساد يزيد عجز الموازنة وأزمة الشعب اللبناني الحياتية والمعيشية، ومحاولات لفرض قانون انتخاب يكرّس الأمر الواقع ويمنع الشعب اللبناني من أن يكون سيّد قراره.
من هنا، فإنّ الجواب للذين يسألون ما إذا كانت 14 آذار لا تزال ضرورة وطنية؟ واضح بأنّ الظروف الوطنية والسيادية التي استدعت انتفاضة الشعب اللبناني وثورته في العام 2005 لا تزال على ما كانت عليه... إلّا إذا كان المطلوب اغتيالاً جسدياً لزعيم ما لتبرير الانتفاضة... فاغتيال لبنان وأسر دستوره وقوانينه ونفي مؤسسات الدولة أسوأ بكثير من استهداف الأشخاص جسدياً!
فإذا كان البعض يعتبر أنّ مجرد انتقال العماد عون من قصر الرابية الى قصر بعبدا في لبنان يكفي لإبعاد الوصاية الإيرانية عن النظام السياسي اللبناني، وأنّ مجرد انتقال الدكتور سمير جعجع من سجن وزارة الدفاع في اليرزة الى منزله في معراب يكفي لإحياء دولة الشراكة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين، وأنّ مجرد عودة سعد الحريري الى السراي الحكومي تكفي لإعادة لبنان الى كنف الشرعيتين العربية والدولية، فإنّ هذا البعض سيكتشف في يوم، عساه لا يكون بعيداً، بأنّ تجارب التسويات القائمة على التنازل عن السيادة في مقابل الاستقرار الأمني، والتنازل عن الحياة السياسية الديموقراطية في مقابل ازدهار اقتصادي موهوم، والتنازل عن القرار الوطني في مقابل موقع في السلطة مهما علا شأنه، والتنازل عن التوازن الوطني لمصلحة موازين القوى العسكرية المحلية والإقليمية، ليست سوى مشاريع احتقان تنتهي بانفجارات وحروب.
وهل ماتت 14 آذار؟ ما من شك في أن البعض من رموزها انتحر او هو يسير في طريق الإنتحار السياسي... ولكن نعي 14 آذار يبقى في حاجة لاستسلام شعب أنقذ القادة والدولة في 14 آذار 2005 ... والحديث عن مثل هذا الإستسلام - على الرغم من حالة القرف التي تصيب اللبنانيين- لا يزال لغاية الآن سابقا لأوانه !