عنوان هذه الحلقة (الأديان والحرّيات) يربكني نوعا ما. انه يطرح إشكاليّة جدليّة بين الأديان أو بين الدين بمعناه الفلسفي, والحريّة التي نعرّف عنها، من حيث المبدأ ومن حيث الوجود بأنّها، مكوّنة للإنسان وليست صفة مضافة للفرد البشري الذي يتمتّع بحرّيات من حيث الدور بفعل حقوقه الأساسيّة.
هل هناك تناقض ما بين حرية الإنسان والدين؟
هل هناك قمعٌ حتمي أو تعدٍّ لا مفر منه من الأديان على الحرّيات الفرديّة؟
للبحث في هذا التساؤل، أنطلق من كوني مواطناً لبنانياً أنتمي إلى الدين المسيحي الذي لم أختره ولكن ورثته من أبي وأمي وترعرعت في كنف الجماعة المسيحية في بلدي وفي مدينتي حيث خصوصيات عيشنا المشترك تجعل من الثقافة الإسلاميّة جزءاً من هويّتي المسيحيّة كما هي الحال عند أخي اللبناني المسلم بالنسبة إلى الثقافة المسيحية.
اعتبارات مختلفة
من المستحيل أن يتصوّر عاقل أنّ الدين، كإيمان بالله وبالآخرة، هو مناقض للحرّية البشريّة الوجوديّة. الأديان كلها وخاصة السماوية، تعلن بصراحة عن هدفها مواكبة الفرد في مسيرته من المهد إلى الجنّة.
لكن الأديان هي أيضا أحداث تاريخيّة لها سلّم قيم ومؤسّسات وأنظمة، لها عقائدها وتقاليدها وطقوسها وشرائعها، تؤدّي دوراً أساسياً في مجال الحضارات والثقافات. هي تواكب مسيرة الجماعة المؤمنة عبر التاريخ مؤثِّرةً بشكل مباشر وغير مباشر في تدبير المجتمعات وإدارة شؤون الشعوب. المؤسّسات الدينيّة تتمتّع بسلطان في مجالات عدّة لذلك فأنها تمثّل مصلحة الجماعة التي في بعض الأحيان تتناقض مع مصلحة الفرد وحرّياته.
على سيبل المثل لا الحصر، فقد أوصى السيد المسيح بفصل الإيمان بالله عن الشأن السياسي (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله – إنجيل مرقس 12:17). أمّا جوهر دور الوجود المسيحي ومعناه، فهو مدوّن في نص “الرسالة إلى ديوغنيطوس” الذي نعتبره من أعرق النصوص المسيحيّة من القرن الثاني الميلادي. والرسالة من تأليف إنسان مسيحي من بلاد الشام مجهول الهويّة إلى صديق وثني، ديوغنيطوس، يعرّفه عن الجماعة المسيحية القاطنة في وسط أغلبيّة وثنيّة لا تفهم الإيمان المسيحي وتضطهده أحيانا. يفضي الكاتب بمكنونات فكره لقارئه قائلا: “المسيحيّون لا يتميَّزون عن باقي الناس في أوطانهم، لا في لغتهم، ولا في طريقة حياتهم، ليس لهم مدنٌ غير التي لكم، ولا يوجد لهم لغة غير التي تتكلَّمون بها، ولا يتميَّزون … عن غيرهم… منتشرون في المدن الروميّة/الاغريقيَّة كما في المدن الغريبة… حيث يسكنون، يتماثلون بلباسهم ومأكلهم وطريقة حياتهم بكلّ الناس، يحترمون الأعراف المتَّبعة، ولكنَّهم يبهرون الآخرين” بالتزاماتهم الأخلاقية. “يعيشون في مدنهم …، ويأخذون على عاتقهم حياة المدينة كمواطنين” أوفياء.
نفهم إذاً، أنّ منبرُ الخطاب المسيحي في زمن السلم هو كلُّ مجتمع أهلي أو كل جماعة مدينيّة. يعكس هذا الخطاب النظرة المسيحية إلى الكون التي تنبذ الفئوية وتركِّز، في الحياة العامة، على بعض الثوابت التي لا تتزعزع وتتلخّص في بعض القِيَم: “كرامة – حرية – حقوق – عدالة – سلام”. هذا من حيث الوجود.
أما من حيث الدور فإنني ألخِّصها بعبارة واحدة “المواطنة“.
ولكن في زمن المحنة، فمنبر الخطاب المسيحي هو صليب الضحية البريئة، أيّ ضحيّة مهما كان انتماؤها.
الحرية والكرامة ليستا صفتين مضافتين للإنسان بل هما تكوّنانه. وهما تسبقان الانتماء إلى دين ما أو إلى هويّة وطنيّة ما. إسمحوا لي بأن أستشهد ببعض الآيات المقتَطفة من سفر النبي ارميا في الكتاب المقدّس. ينقل لنا ارميا حواراً مذهلاً بينه وبين الوحي الإلهي ويقول:
فقلت يا سيد الرب اني لا اعرف ان اتكلم لأني ولد (ارميا 1:6)
فقال الرب لي لا تقل إني ولد (1:7ارميا )
لا تخف من وجوههم… لأني أنا معك (ارميا 1:8)
قبلما صوّرتكَ في الأحشاء عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدّستك (ارميا 1:5)
في ظلمة الأحشاء يتمتّع الفرد البشري قبل اسمه وقبل انتمائه إلى جماعة مؤمنة، بقدسيّة مكوِّنة له. وهذا هو تحديداً مفهوم الكرامة المعلَن عنها في ديباجة شرعة حقوق الإنسان (سنة 1948). ثقافة الاستنارة أوجدت فردَ الحداثة واعترفت بكرامته معتبرةً إياها من الموضوعات الطبيعيّة. وقالت الحداثة بسياق الفيلسوف كانت ( Kant) إنّ الطبيعة الانسانية هي أقدس شيء في الكائن البشري. لكن الحداثة الإنسانوية هذه نسيت أو تناست أن آباء الكنيسة منذ القرن الثاني (Ireneus) هم أوّل من تكلّم عنها معتبرين أنّ “مجد الله على الأرض يدعى كرامة الإنسان“. بالرغم من التباساتها وتناقضاتها، يمكننا اعتبار الحداثة بأنها جسّدت إلى حدّ بعيد قيم النظرة المسيحيّة إلى الإنسان.
إن كنتَ مؤمناً فلك الحق أن تعتبر كرامة الإنسان وحريته انعكاساً لمجد الله.
وإن كنتَ غير مؤمنٍ فأنتَ حرٌّ أيضا في أن تعتبر الكرامةَ نفسها من الموضوعات الطبيعيّة.
ولكن في كلا الحالتين أنت مُلزَم أن تصون كرامةَ كلِّ فرد وحرياته وحقوقه، وأن تحترمها.
هذا ما يمكننا أن نسمّيه الإنسانويّة الشاملة حيث الإنسان ليس كائنا مستعبَدا من قبل الله وليست الأنا البشرية في مواجهة دائمة مع الذات الإلهية.
هناك إنسانويّة متجذرة في المسيحية، إذ لم يعرّف يسوع الناصري عن ذاته في النصوص الإنجيليّة إلاّ بعبارة “ابن الإنسان“.
سؤال: هل حقّا جسّدت المجتمعات المسيحيّة عبر التاريخ هذه المبادئ السامية؟
جواب: كلا ليس دائما.
السيد المسيح قال لجماعته بفصل الإيمان عن السياسة ومنحها سلطان الربط والحلّ (من غفرتم لهم خطاياهم تُغفَر لهم ومن أمسكتم لهم خطاياهم أُمسكت – إنجيل يوحنا 20:23).
لا حاجة بالتذكير كيف استعملت أحيانا المؤسساتُ الدينيّة المسيحيّة سلطانَها هذا لمصلحة سلطتها هي او لمصلحة سلطة الملوك والقياصرة. تاريخ المجتمعات المسيحية حافلٌ بأمثال عديدة، وذلك بفضل تفسير تعاليم المسيح والرسل والآباء بشكل تعسفي خدم أحيانا مصالحَ الدنيا. كم من اجتهادٍ لأهل العلم واللاهوت حلّل العنف وقدّس الحروب وسفك الدماء وقمعَ الحرّيات وظلم الناس.
اللائحة طويلة ولا حاجة لسردها بالتفصيل. أذكر فقط كيف ان محاكمَ التفتيش كانت تعذّب المتهَمين بالهرطقة أو الردّة بكل صفاء الضمير لأنها اعتبرت أن عذابَ الجسد هو عمل خير لكونه وسيلةُ خلاصٍ للنفس كي تتحرّر من الشرّ الذي يعتقلها.
إنسانوية الاعتدال الشاملة
لم يكن احدٌ يتصوّر ان البشرية ستصل الى ما وصلنا اليه اليوم.
ركيزةُ قناعةِ الفردِ بنفسه لم تعد هذه “أنا” الحداثة. لقد استبدلناها بأنا جماعية غرائزية قبائلية ولا يسعني إلا أن أقول بربرية.
حجرُ الزاوية في العلاقات بين الناس لم يعد هذه الألفة الطبيعية بيننا.
استبدلنا مقولةَ الفيلسوف ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود” بمقولة غرائزية قاتلة “أنا أكره إذاً أنا موجود”… فماذا فعلنا بكل هذه القرون من مسيراتِنا الثقافية نحو الأفضل والأسمى للإنسان؟
ماذا فعلنا بهذا الإطار المميّز للعيش سويا: المدينة؟ هذه الأحشاء التي تحتضن الجميع المختلفين؟
في فضاء المدينة أنتَ أنتَ…. ربّي كما خلقتني… تماماً كما كنتَ في ظلمة الأحشاء التي أنجبتكَ.
وهذا تماماً ما حصل يوم 14 آذار 2005 في بلدي لبنان بعد مقتل المغفور له رفيق الحريري رئيس الوزراء الأسبق. 1.500.000 شخص أي ثلث الشعب اللبناني توافدوا تلقائيّاً إلى وسط بيروت وملأوا ساحاتها. أتوا من كنف طوائفهم وأريافهم كأطفالٍ غير ناطقين بصوتهم الفردي كما يقول ارميا النبي. وفي وسط بيروت، في هذه الأحشاء، وُلدوا كأفرادٍ مواطنين. ولكن ويا للأسف. المدينةٌ ضعيفةٌ وهشّة إذا قسناها بمعيار القوة الجسدية. فضاءُ المدينة هو كاللحم البشري عرضةٌ للمرض الفتّاك. لذلك تستطيع الفتنةُ أن تقضي عليها.
ولكن وبالرغم من الصعوبات الحاليّة لا مكانَ للإحباط.
عالمُنا مقسومٌ اليوم بين شريحةٍ معتدلة وشريحةٍ متطرّفة. وهذا الإنقسام يخترق كلَّ المجتمعات والشعوب وكلَّ الجماعات الدينية والطائفية.
يتوجّب علينا نحن المعتدلين حماية الإنسان الذي كرّمه الله أشرفَ تكريم. يتوجّب علينا حماية ثقافة أنسانويّة.
عملاقُ عصرِ النهضة بيكو ديللا ميراندوللا (Pico Della Mirandola) يشهد للعرب في كتابه الشهير “عن كرامة الإنسان” (De dignitatae Hominis) الذي ألّفه عن عمر 24 سنة في اواخر القرن الخامس عشر: “لقد قرأتُ في كتب العرب أنه لا يوجد على الأرض أروع من الإنسان”… ومن هنا انطلقت الحركةُ الإنسانوية في الغرب.
دعوني أُردّد أمامَكم دعوةَ صديقي المفكر السياسي سمير فرنجية: “أيها المعتدلون في العالم إتحدوا”.
وأثنّي عليه بدعوةٍ من أجل تحصينِ كرامةِ الإنسان: يا أهلَ الاعتدال تعالَوا كي نُعلنَ مجدَ الله على الأرض. مَن يريد أن يُعلنَ هذا المجدَ دينياً فليفعلْ على طريقته. ولكن علينا كلّنا ودون استثناء احترام كرامةَ الإنسان وحرّياتِه في أوطانِنا، وأوّلُ هذه الحرّيات وأساسها هي حرّيةُ المعتقد.
حينئذٍ نستطيع أن نقولَ بكلِّ فخر: الإنسانُ الحرُّ يتشرّف بمواطَنةٍ قائمةٍ على القانون وليس على الهوية.
بيروت في 24 شباط 2017 م.