التهديد الذي وجهه الوزير الاسرائيلي نفتالي بينيت بالأمس الى لبنان مضحكٌ ومحيرٌ في آن. هو يخرق هدوءاً ساد على تلك الجبهة التي إشتعلت قبل أسابيع بالوعيد، ويستحضر جملة كانت قد سحبت من التداول الاسرئيلي منذ فترة طويلة، ومفادها ان اسرائيل، في اي حرب مقبلة، ستعيد لبنان الى العصور او القرون الوسطى.
القاعدة الثابتة التي يكرسها تهديد الوزير الاسرائيلي الجديد هي أنه كلما إرتفع الصوت، إستُبعد الفعل، وتحولت الخطابات والتصريحات الى وسيلة مثلى للردع، ولتفادي الخروج الى الحرب..على الرغم من بعض الاستثناءات التي سبقت حروبا اسرائيلية سابقة سربت خططها السرية وتفاصيلها وحتى مواعيدها، كما نشرت أهدافها في وسائل الاعلام.
الغريب ان اسرائيل تطلق هذا التهديد وهي في حالة حرب فعلية على لبنان، لم تهدأ منذ اعلان وقف اطلاق النار في الشهر الثامن من العام 2006، وهي تركز على قصف مواقع ومخازن لحزب الله في سوريا.. وهو ما لم ولن يؤدي على الارجح الى فتح الجبهة الجنوبية وعودة التراشق بالغارات والصواريخ، التي لن تسفر في أي حال عن تعديل في مجرى الصراع الاميركي الايراني المتجدد منذ وصول الرئيس دونالد ترامب الى البيت الابيض.
والاغرب ان يكرر الاسرائيليون اليوم بالذات ذلك التلويح بإعادة لبنان الى القرون الوسطى، التي يتراجع اللبنانيون نحوها بثبات ووعي تام، ومن دون الحاجة الى غارات جوية إسرائيلية، قد تكون أعنف مما تعرضوا له في حرب العام 2006 لكنه لن تكون أشد إيلاماً، وأبعد أثراً على الاجتماع اللبناني. والمقصود هنا ليس الخسارة البشرية التي يمكن أن ترتفع الى مستويات قياسية توازي الخسارة التي تكبدها الاشقاء الفلسطينيون في العام 2008 -2009وما زالوا يتكبدونها في قطاع غزة المدمر والمحاصر حتى اليوم.
عدا ذلك الثمن الباهظ للحرب، فان العودة بلبنان الى القرون الوسطى لا تشكل تهديداً يؤخذ على محمل الجد، لا من قبل اللبنانيين الذين يعيشون بالفعل في تلك الحقبة، وهم يستقرون فيها الان أكثر من أي وقت مضى في تاريخهم الحديث، ولا من قبل حلفائهم الذين لا يمانعون أن يجري التعامل مع لبنان وسكانه بما كانوا عليه في العصور الوسطى، وبما هم راضون به حقاً ولا يودون مغادرته في المستقبل المنظور.
لا حاجة الى البرهان على أن الاجتماع اللبناني الراهن ينتمي فعلاً الى القرون الوسطى التي يلوح بها الاسرائيليون. فالنظام السياسي الذي كان لديه فرص للتطور والتحديث حتى خلال الحرب الاهلية، يقدم كل يوم الدليل على أنه يستمد من تلك الحقبة التاريخية عناصر تكوينه وتشكيله وعوامل تفككه وإنهياره، ويستعير حتى المفردات التي كانت سائدة في ذلك الزمن. وكذا الامر بالنسبة الى مؤسساته وقطاعاته الرسمية التي تدار اليوم وفق مفاهيم وأعراف وتقاليد سابقة حتى على الفترة العثمانية.. حيث ترتقي الطائفة أو المذهب لتصبح مرة أخرى الأفق الأبعد للثقافة والوعي والجغرافيا لجيل كامل من اللبنانيين.
ولا حاجة الى الحديث أيضاً عن ان الخدمات التي تتوافر للبنانيين اليوم لا تختلف كثيراً عن الخدمات التي تنعّم بها أسلافهم في القرون الوسطى، عندما كانت مصادر الطاقة ووسائل النقل عائلية او منزلية، وعندما كانت المياه تنقل من منابعها بالجرار (الصهاريج الصغيرة) كما هو حاصل اليوم تماماً، وعندما كانت التربية والصحة شأناً متروكاً للمبادرة الفردية، وعندما كانت وسائل الاتصال تقوى وتزداد فعالية كلما ارتفعت على أسطح المنازل ورؤوس الجبال..
التهديد الإسرائيلي لم يعد يخيف أحداً في لبنان. وهذا ليس مزاحاً او تجاوزاً للواقع. ثمة لبنانيون كثيرون، ومن مختلف الطوائف و المذاهب، لا يطلبون سوى إعتراف رسمي بأن لبنان ما زال في العصور الوسطى التي قد تبدو في بعض صورها عصوراً ذهبية بالمقارنة مع البؤس اللبناني الراهن..وفي ذلك الطلب مزيج من الردع والتحدي لإسرائيل.