ذكرت صحيفة "الأخبار" أنه تحت التعذيب، أدلى أربعة موقوفين بما أملاه المحققون عليهم من أقوال تفيد بارتكابهم جريمة قتل. مكث الموقوفون في السجن مدّة أربع سنوات ظلماً، حتى قررت محكمة الجنايات في جبل لبنان، برئاسة القاضي فيصل حيدر وعضوية المستشارين ناظم الخوري وساندرا القسيس، تبرئتهم من تهمة القتل للشك وعدم كفاية الأدلة. بمعنى ما، قررت المحكمة أن الاعترافات التي انتزعها المحققون بارتكاب الجريمة غير صحيحة، وأن الأدلة التي استندوا إليها غير كافية ومشكوك فيها... أي بكلمة أخرى، قررت المحكمة أن التحقيقات لم تكن سليمة ولا يعتدّ بها لتجريم المتهمين.
ما ورد أعلاه هو ملخص عن الحكم الصادر عن محكمة الجنايات في جبل لبنان وحيثياته، نشرته "الأخبار" في عددها 3120 تحت عنوان: "4 أبرياء سجنوا 4 سنوات ــــ المحققون عذّبوهم واتهموهم بالقتل والمحكمة برّأتهم"، أي أن محتوى التقرير المنشور ليس سوى محتوى الحكم نفسه الصادر عن محكمة مختصة، وما ورد في التقرير من "معلومات" إنما هي "معلومات" أوردتها المحكمة في متن الحكم الصادر عنها... إلا أن المفاجأة كانت بإصدار المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بياناً ردّت فيه على ما تضمنه "الحكم القضائي"، بحجّة أنها ترد على "تقرير صحافي"، واعتبرت أن ما ورد فيه "تشوبه الكثير من المعلومات غير الدقيقة"، وبهذا اتهمت المديرية العامة في بيانها المحكمة بأنها استندت الى معلومات مغلوطة، وأن حكمها غير صحيح، وأن "الحقيقة" هي في جعبة المحققين التابعين لها!
سرد بيان الرد كيفية بدء التحقيقات في مفرزة جونية القضائية، بتاريخ 15/7/2013، حول مقتل (ط. س.، مواليد عام 1974، سوري) تحت جسر مستيتا على أثر ملاحقته شخصين سرقا دراجته الآلية في محلة بلاط، حيث تم ضبط مظروف العيار الناري والمقذوف في مسرح الجريمة... ويسرد أيضاً كيفية التوصل الى خيوط تربط بين هذه الجريمة وأربعة أشخاص هم: (أ. ع.) و(ا. ش.) و(ا. ب.) و(ح. ح.) أحيلوا الى المفرزة، بتاريخ 6/8/2013، بجرم سرقة دراجات آلية (...)، إذ (هكذا) "اعترف كل من (ا. ش.) و(ا. ب.) و(ح. ح.) بأن (أ. ع.) أطلق النار إرهاباً تحت جسر مستيتا في جبيل، باتجاه ثلاثة أشخاص كانوا يلاحقونهم بعدما سرقوا دراجة أحدهم الآلية من بلدة بلاط – جبيل (...) في حين أنكر (أ. ع.) المذكور إطلاقه للنار (...)، لاحقاً "وبالتحقيق معهم اعترف الجميع بحادثة إطلاق النار (...)"، يخلص البيان في هذا السرد الى "أن التحقيق كان سهلاً جداً وعادياً، نظراً إلى اعترافهم بملابسات الجريمة في معرض التحقيق معهم على خلفية سرقة الدراجة الآلية". يضيف البيان إنه "بتاريخ 19/8/2013 تم تمثيل الجريمة بحضور المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامر ليشع، وهذا يؤكّد بشكلٍ جلي عدم تعرضهم للتعذيب أو الضرب أو نزع الأسنان والأظافر، على عكس ما ذكر التقرير (أي الحكم)". ويتابع البيان ردّاً على ما ورد في حكم المحكمة أنه "بتاريخ 30/11/2013 ورد تقرير مكتب المختبرات الجنائية إلى مفرزة جونية القضائية ومعه المضبوطات (مسدس نوع "توغاريف" و16 طلقة نارية، ومظروف عيار 9 ملم، ومقذوف عيار 9 ملم)، ونظّمت به محضراً برقم 2552 /302 تاريخ 2/12/2013، وبدورها سلّمته المفرزة بتاريخ 5/12/2013 إلى قلم النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، لقاء أخذ توقيع أحد موظفي النيابة العامة المذكورة على سجل التسليمات المعتمد لدى المفرزة، أي بعكس ما ذكر التقرير (أي الحكم) أنه لم يتم تسليم التقرير الى النيابة العامة في جبل لبنان إلا في كانون الأول 2016". ثم يقول البيان إنه "بتاريخ 2/12/2016 تم استدعاء منظمي المحضر بموجب ورقة دعوة للحضور الى محكمة جنايات جبل لبنان بصفة شاهدَين للاستماع إليهما بتلك القضية، حيث حضرا في الوقت والتاريخ المحدّدَين لهما، على عكس ما ذكر التقرير (أي الحكم) بأنهما لم يحضرا الجلسة ولم يُبلّغا ورقة الدعوة من قبل المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي التي ينتميان إليها". وفي نهاية البيان، لا تنسى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أن "تدين بشدة انتزاع الاعترافات بوسائل عنفية منافية لحقوق الإنسان، وتؤكد أنها تعتمد أساليب التحقيق الحديثة المحترفة التي تقوم على إثبات البراهين والأدلة العلمية في أثناء التحقيق مع الموقوفين وتحت إشراف القضاء المختص".
إذاً، سمحت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لنفسها بأن تردّ على حكم صادر عن القضاء، وتتولى دحض ما ورد في حيثياته. وبالتالي، سمحت لنفسها بالتعبير عن اقتناعها بصحة الاعترافات (السهلة جداً) التي انتزعها محققوها من الموقوفين، لتصرّ بذلك على تجريم أشخاص حازوا البراءة في المحكمة.
بحسب قضاة وقانونيين، ارتكبت المديرية العامة في بيانها مخالفة جسيمة للقانون، بل أكثر من ذلك بكثير، إذ نصّب جهاز أمني نفسه سلطة موازية لسلطة القضاء، تصدر أحكاماً أو تُعلّق على أحكام صادرة عن القضاء، أي السلطة الوحيدة المخوّلة إصدار الأحكام في النظام اللبناني.
بحسب أحد القضاة (رفض ذكر اسمه) "ينتهي دور قوى الأمن عند إشارة النيابة العامة بختم التحقيقات وإيداعها إياها، لكون نظامنا قائماً على فصل السلطات». وبحسب القاضي المذكور، فإنّ "قوى الأمن باعتبارها ضابطة عدلية تقوم بالتحقيق كمعاون للنائب العام، ولذلك يوصف التحقيق بأنه تحقيق قضائي". ويسأل القاضي المذكور: «إذا نقضت محكمة التمييز حكم محكمة الجنايات، هل يحق للأخيرة إصدار بيان تعقيب أو رد؟». إذا كان هذا غير جائز بين محكمتين تشكلان جزءاً من سلطة القضاء المستقلة، فكيف يمكن أن يكون جائزاً لجهاز أمني يتولى التحقيق بوصفه أداة لهذه السلطة؟
إن إصرار المديرية العامّة على أن تحقيقات عناصرها لا تشوبها شائبة، تكون بذلك تتهم المحكمة بأن الشوائب تكمن في حكمها؛ فحيثيات هذا الحكم تشير الى ثُغَر كثيرة في تحقيق الضابطة العدلية أفضت إلى إصدار حكم البراءة من تهمة القتل.
تجدر الإشارة إلى أن وكيل المتهمين المحامي بلال الحسيني تقدم بطلب إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي السابق اللواء ابراهيم بصبوص يطالب فيه المديرية بإجراء تحقيق شفاف لإعادة الاستماع إلى المحققين والمتّهمين في قضية التعذيب.