لم يُثر فيّ مشهد «تحجيب» تمثال أم كلثوم في مدينة المنصورة إلاّ شعوراً بالشفقة على أولئك الظلاميين الذين قاموا بهذه الفعلة الشنعاء، وفي ظنّهم أنهم بتحجيب تمثالها حققوا انتصاراً على الرمز الذي تمثله هذه المطربة الكبيرة في حياة الشعب المصري والعربي. حتى مشهد قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في سورية واقتلاع تمثال طه حسين في المنيا أثارا فيّ من السخرية ما أثارا من شفقة أيضاً، السخرية منهم، هم الذين ترعبهم التماثيل وتقضّ حياتهم وليس مضاجعهم، ليلاً ونهاراً. ليغتالوا من التماثيل ما شاؤوا، إنها من حجر ومعدن، والفنانون الذين أبدعوها قادرون على إبداع سواها، تحيةً لهؤلاء العظام الذين صنعوا ثقافة شعبهم ورسخوا حضارة بلدانهم وعمموا مبادئ الجمال والخير.
إنها أعمال مشينة تدلّ أكثر ما تدلّ على المحنة التي يعيشها هؤلاء الظلاميون في عصر الحداثة الذي تعميهم أنواره وثوراته الجديدة وأفكاره الحرة... يخاف هؤلاء أطياف المفكرين والفنانين والأدباء الغائبين، جسداً وليس بالروح، فيعمدون إلى محاربتها خائضين معارك طواحين الهواء التي تنتهي بهزيمتهم الفكرية وتفضحهم أمام الملأ والعالم. هل يظنّ هؤلاء الجهلة الذين يخشون الفكر والفن والعلم والأدب والجمال، أنهم تمكنوا، بقطعهم رأس تمثال أبي العلاء، من القضاء على فكره وشعره؟ ألا يعلمون أنهم عاجزون كل العجز عن حذف كلمة ولو واحدة من تراثه المحفوظ في ذاكرة الكتب والتاريخ؟ هل يعتقدون أنهم قادرون على مواجهة فكر طه حسين الذي كان وراء تأسيس التعليم المجاني في مصر؟ ألا يعلم هؤلاء الطارئون على الحياة العربية أنّ صاحب «الأيام» هو القمين بالبقاء في روح الأجيال المقبلة وليسوا هم، هم الذين ستنطوي صفحتهم عندما تنكشف خدائعهم وأحابيلهم، الخارجة عن حقيقة الإيمان؟ هل يظنّ هؤلاء أيضاً أنهم قادرون على خنق صوت أم كلثوم الذي يملأ ذاكرة الشعوب العربية، على اختلاف مشاربها؟ هذا الصوت الذي يخفي وراء جماله وسحره، الكثير من أسرار الفن والإنسان، لا يمكن اضطهاده، فهو أقوى من أن تواجهه حفنة من جهلة يسعون إلى إضلال الناس الأبرياء.
لم أتأثر بما شاهدت أخيراً من تماثيل مشوّهة على أيدي الظلاميين الجدد كما تأثرت سابقاً أمام مشاهد الاغتيال الفكري الحقيقي. القتل المجازي أخفّ وطأة من القتل الجسدي. كان سقوط الكثير من المفكرين العرب برصاص الظلاميين أو تحت طعنات خناجرهم المجرمة أشدّ دويّاً ووحشية من هذا القتل الذي يمارس على التماثيل. مفكرون عرب، من أجيال وهموم وثقافات تختلف بعضاً عن بعض، «إنسانويون» و»شخصانيون» وطليعيون، ملتزمون قضايا الإنسان والجماعة، نبلاء وصالحون، راحوا يتساقطون واحداً تلو الآخر، على أيدي الظلاميين، الظلاميين الذين ينتحلون الصفة الدينية والظلاميين الآخرين الذين يتوارون خلف أقنعة التقدمية والبعث والثورة والعلمانية وسواها من الشعارات الكبيرة المزيفة. كم كان أليماً سقوط هؤلاء المفكرين في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق والجزائر والمنفى... فرج فودة وناجي العلي وحسين مروة ومهدي عامل وعبد الوهاب الكيالي وعزيز جاسم الموسوي والطاهر جعوت وأحمد الفاضل وسمير قصير وسواهم وما أكثرهم.
إنها «ثقافة» الاغتيال، سياسياً ودينياً، تقدمياً وبعثياً وظلامياً ورجعياً، مجازياً وحقيقياً.»ثقافة» ما زالت تعمّ عالمنا العربي، منتقلة من حقبة إلى أخرى، ومن جماعة إلى أخرى. «ثقافة» تظل هي نفسها مهما اختلفت أدواتها وأقنعتها. فالقتل قتل، وقاتل الفكر هو قاتل. وكم أصاب الشاعر الفرنسي لوتريامون حين قال إنّ مياه المحيط غير قادرة على غسل نقطة واحدة من دم مثقف.
عندما طعن ظلامي شاب الروائي الكبير نجيب محفوظ عام1995 بخنجر ملؤه الحقد والكراهية، إنما كان يبغي أن يقضي عليه لينال - كما أوهموه - حظوة لا أحد يعلم ما هي. لكنّ القدر خيّب آمال هذا الشاب فبقي كاتبنا على قيد الحياة. نجا هو لكنّ يده أصيبت بعطب حال دون مواصلته الكتابة بالقلم. ولم يأبه لهذا العطب فراح يلقي نصوصه على من يدوّنها له. انتصر نجيب محفوظ على الظلاميين وإن عانى الكثير جراء هذه الطعنة الغادرة التي كافأته على طريقة أصحابها، بعدما كافأه العالم بمنحه جائزة نوبل. من قال إنّ الظلاميين لا يكافئون الأدباء العرب؟
ليغتل الظلاميون ماشاءوا من تماثيل المفكرين العرب. الحجر أو المعدن لا يواجهه سوى أشخاص من حجر ومعدن، وهؤلاء يعلمون جيداً أنهم لا يخوضون إلا معارك طواحين هواء، معارك تبدو نهاياتها وخيمة مهما طال بها الزمن.