وهكذا، فالحريري يشعر تارة أنه متروك لينطلق سياسياً، وطوراً بأنه مطوَّق. لكن المهم، بالنسبة إلى «الحزب»، أن يصل الحريري إلى يدِ الصياد. وبعد ذلك، كلّ شيء يصبح وارداً.
قد يراهن الرئيس ميشال عون على أنّ بداية عهده الحقيقية ستكون بعد الانتخابات النيابية. فأمامه ست سنوات، ولا بأس إذا «طار» منها بعض الأشهر في «التقليعة». ولكن، لا مجال أمام الحريري لتفكير من هذا النوع.
وعلى العكس، قد تنتهي ولاية الحريري حين تبدأ ولاية عون، أي بعد الانتخابات. فلا أحد يضمن أن يُسمِّيه المجلس الجديد لرئاسة الحكومة، إلّا إذا تمّ ذلك ضمن صفقة كبرى.
إذاً، يريد الحريري بالتأكيد الحصول على الضمانات الآتية:
- في الدرجة الأولى، أن يكون قانون الانتخاب مناسباً له، فيؤمّن له كتلة نيابية واسعة ومتنوّعة طائفياً. وهو اليوم يمتلك الكتلة الأكبر في المجلس، ولا يريد التخلّي عن هذا الامتياز لأنه الضمان الكبير له في رئاسة الحكومة.
- في الدرجة الثانية، أن يحوط نفسه بشبكة علاقات سياسية تضمن له أن لا يتعرض للاستهداف مجدداً واستعادة تجربة النفي. لذلك، يتمسك بالتحالف مع النائب وليد جنبلاط و»القوات اللبنانية»، وبعلاقة ثقة مع الرئيس نبيه بري، وبالتطبيع مع رئيس الجمهورية و»حزب الله».
- في الدرجة الثالثة، يريد الحريري أن يحافظ على موقع له داخل المؤسسات، وفي المشاريع الكبرى الموعودة، يعوِّضه الأزمات التي يعانيها منذ سنوات. فماكينة «المستقبل» نشأت أساساً مدعومة بقوة دفع هائلة يمتلكها الرئيس رفيق الحريري، ومن المناسب أن تستعيد بعض الدعم اللازم لانطلاقها.
إنّ عودة الحريري إلى السراي، بمواقع بارزة في الحكومة، كانت الثمن المباشر لموافقته على تسمية رئيس للجمهورية من فريق «8 آذار». لكنّ الخطوات التالية التي يطمح إليها ربما تستلزم صفقات جديدة.
ويدور اليوم جدل حول حقيقة موقف الحريري من اعتماد النسبية الكاملة في قانون الانتخاب الموعود. وفي الخضم، جاء الكلام على مقايضة وافق عليها الحريري: «قبوله بالنسبية مقابل استمراره في رئاسة الحكومة».
وفي معزل عما إذا كان الحريري مستعدّاً فعلاً لمقايضة من هذا النوع، فإنّ بعض المحيطين به يجزمون بأنّ الرجل لن يسمح بتمرير التسويات السياسية على حسابه. فهو مستعدّ لتقديم تنازلات طفيفة في قانون الانتخاب، لكنه لن يوافق على تنازلات تؤدي إلى إفقاد «المستقبل» موقعه. وإلّا فما الذي يضمن له دوره المطلوب بعد الانتخابات؟
في بعض الأوساط يدور كلام مفاده الآتي: في العلن، تتمحور النقاشات حول ملف الانتخاب والموازنة والخطوات المنوي تنفيذها، من النفط إلى الكهرباء والتعيينات. ولكن، في الخلفية هناك سياق سياسي يحسم اتجاهها ومضامينها.
في العمق، التحدّي المطروح هو: أين سيكون لبنان الرسمي في نزاع المحاور الدائر في الشرق الأوسط؟
مع وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، طبيعي أن يمضي «حزب الله» في دفع لبنان إلى الانفتاح على محور إيران - الأسد. ومنذ الأسابيع الأولى من العهد، جرت اتصالات أولى بينه وبين دمشق، منها تلك التي تمت بين وزير العدل سليم جريصاتي ونظيره السوري في ملف جريمة العاقورة.
بعد ذلك، وجّه الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله نداءً مباشراً إلى الحكومة اللبنانية لفتح حوار مع دمشق في ملف النازحين. وتؤكد المصادر القريبة من بعبدا أن لا شيء مستغرباً إذا قام لبنان باتصال مع دمشق يؤدي إلى حلحلة في هذا الملف المتفجّر، «ومَن عنده طريقة أخرى فليرشدنا إليها»!
حتى الأوساط القريبة من الحريري، ومنها وزارة شؤون النازحين، تعارض الطرح، لكنها بدت متحفّظة في استثارة أزمة. وثمّة مَن يتوقع أن يعلن «المستقبل» معارضته التواصل مع الأسد، من دون أن يتسبّب بأزمة إذا اتصل المحسوبون على رئيس الجمهورية بدمشق. ولا يريد «المستقبل» تحميله المسؤولية عن تكريس أزمة النازحين «لأنه عنيد في رفض التواصل مع دمشق».
وعلى الأرجح، ستستمرّ المراوحة في عدد من الملفات، لا قانون الانتخاب والتعيينات فحسب، بل أيضاً تلك المتعلقة بتقاسم الثروات، كالموازنة والنفط والكهرباء، لأنّ هذه الملفات ستُستخدَم في المساومة السياسية: مَن يأخذ في السياسة ومَن يأخذ في المشاريع!
يريد «حزب الله» من قوى «14 آذار» تنازلات إضافية: مع «القوات» يراهن على دور عون في استمالتها. أما مع الحريري فمنطق المساومة هو الراجح: تعالَ وانفتِح على الأسد، والبقية تفاصيل!
يستطيع الحريري مواجهة المحور الإقليمي إذا تلقّى الدعم الكافي من المحور السعودي. لكنّ الرياض تأخذ على «14 آذار» عموماً، أنها ليست مستعدة لمواجهة مفتوحة مع «حزب الله». ولذلك، هناك أسئلة حول المدى الذي يمكن أن يبلغه دعم السعودية للحريري.
وفي الأيام الأخيرة، ازدادت الإشارات إلى «الكباش». هل الفتور العوني- «القواتي» جزء منها، مقابل نضوج التفاهم بين «التيار» وحركة «أمل»؟ والسجال حول موقف الحريري من قانون الانتخاب؟ والمراوحة القاتلة في الملفات؟ وفي الانتظار، يجدر التعمّق في قول الحريري: إما القانون الجديد وإما فشل الحكومة!