واذا صحٰت المعطيات المتداولة فإن غالبية قوى التمديديْن السابقيْن تجمعهم اليوم رغبة جامحة بتمديد ثالث تكون مدته سنة. ولعلٌ عدم انطلاق الماكينات الانتخابية ابرز مؤشِّر على ما يرسم من تأجيل للانتخابات النيابية المقبلة. موعد الحادي والعشرين من أيار طار حتى وان وقّع رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، فلا هيئة الإشراف على الانتخابات شُكٰلت ولا صُرفت الاعتمادات المطلوبة لاجراء العملية الانتخابية. وحتى ولو ان البعض يعتبر ان المهلة ما زالت مفتوحة امام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حتى ١٨ أذار المقبل، باعتبار ان وزير الداخلية قرّر اجراء الانتخابات في ٢١ أيار اي في اخر احد قبل بدء شهر الصوم لدى الطوائف الاسلامية، وبالنسبة لرئيس الجمهورية ، ولاية المجلس تنتهي في ٢٠ حزيران ولا شيء في القانون يمنع اجراء الانتخابات في رمضان، او احتساب مواعيدها وفق نهاية الولاية وليس وفق شهر رمضان غير الملحوظ في الدستور أو في القانون. الا ان هذا الاختلاف حول إجراءات الانتخابات ليس شكلياً الى حدٰ تناسي أن رئيس الجمهورية أسقط عمداً اول مهلة امام اجراء الانتخابات في موعدها وفق قانون الانتخاب النافذ. فهو عند اول مواجهة في مجلس الوزراء بشأن الانتخابات، صارح جميع القوى الموجودة على طاولة حكومة الوحدة الوطنية، بأنه اذا خيّر بين اجراء الانتخابات وفق الستين او الفراغ فسيختار الفراغ.ومن يعرف جيداً العماد عون يدرك انه سيأخذ الجميع الى حافة الفراغ ، ولن يتراجع عن رفضه اجراء الانتخابات وفق قانون يراه غير عادل وتجاوزه الزمن.
وهو سيتجاوز المهل واحدة تلّو الاخرى، معطياً الآخرين في مقابل كل مهلة مهلة لمراجعة حساباتهم ، فإما ان يتراجعوا عن قانون الستين ويتوصلوا الى قانون انتخاب جديد عادل للجميع، واما انه سيحمٰلهم مسؤولية الوصول بالمجلس الى الفراغ. ولمن يقول إن لا فراغ في السلطة التشريعية التي يمكنها ان تجتمع وتعدُل المهل وتمدّد لنفسها منعاً للفراغ، يأتي الجواب حاسماً:"المسيحيون لن يكونوا هذه المرة غطاءاً ميثاقياً للتمديد، فهل يمكن الطوائف الاسلامية ان تفرضه من دونهم، في بداية عهد الرئيس عون؟ مخطئ من يعتقد ان من قاتل ونفي وناضل وعاد بعد ٢٦ عاماً الى القصر الجمهوري بإرادة ممن كانوا انفسهم قد التقوا على عزله وإسقاطه نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات. هذا المسار الطويل من التحوٰلات جعل العدو صديقاً او حليفاً وكرّس معادلة جديدة لن تكون فيها استعادة الحقوق مجرد شعار والرئيس القوي لن يكون فقط بتربعه على عرش حكم تمّ تهميش دوره حتى الاستغناء عنه بالفراغ وتقاسم صلاحياته كلما أرادوا ذلك".
ما يحكى في الكواليس ، يكشف انه مع الرئيس عون لا عودة الى "عصر الترويكا الرئاسية"، ولا الى "بيضة القبٰان الجنبلاطية،" وكل ما تمّ قضمه من صلاحيات بالعزل والتهميش والاستيلاء ستتم استعادته بتطبيق الدستور وعدالة القوانين،بدءاً من قانون الانتخاب. ومن انتظر اربع سنوات المجلس الممدّد لنفسه تحت حجة وضع قانون انتخاب جديد، لن يعطي هذا المجلس اكثر من الأشهر الخمسة المتبقية له لإيجاد هذا القانون. اما القبول بالتمديد التقني فلا يكون الا بقانون جديد يقرٰه هذا المجلس قبل انتهاء الولاية.
في المقابل تلتقي الطوائف الاسلامية على استغراب هذا السقف العالي الذي صعده رئيس الجمهورية ومعه كل الفريق المسيحي، ولسان حالها "ان لا فراغ في المجلس النيابي والدليل انه استمرّ طوال فترة الحرب بحكم كونه العمود الفقري للشرعية ورغم انه لم يكن يمثل القوى الفاعلة في البلد آنذاك، فكيف في حال السلم؟ واذا شغر المجلس فلن تبقى حكومة ويصبح رئيس الجمهورية أعزل بلا اداة تنفيذية ولا تشريعية. ومهما طال الاختلاف على قانون الانتخاب، فسيتحقٰق الاتفاق يوماً ما وعندها لن يكون مجلس لإقراره ولا حكومة لتنفيذه. وماذا يمكن لرئيس الجمهورية ان يفعل، اذا خرج من هم اليوم في السلطة وعلى الطاولة الى المواجهة الكبرى في الشارع؟ هل تبقى دعوته القوى السياسية الى طاولة حوار ممكنة وقابلة للتلبية، ام يذهب الجميع الى مؤتمر تأسيسي يهوٰل به بين الحين والآخر؟
حتى الآن، صيغ الانتخابات ترمى تباعاً في التداول تحرق واحدة تلّو الاخرى، وما زال هامش المناورات متاحاً امام الجميع، وكل الفرقاء يلعبون آخر أوراقهم: يلعنون في العلن قانون الستين، وهم غير قادرين على التآلف مع غيره من القوانين. يُقسِمون بعدم التمديد للمجلس النيابي، فيما معظمهم غير مستعد للخوض في متاهة اي انتخابات قد تفقدهم مكاسب لن يستعيدوها. وكأن أجراس الحرب تقرع بعد نحو ربع قرن على تصفية حسابات قديمة: "معركة الالغاء" انتهت بمصالحة و"حلف استعادة الحقوق"، و"معركة سوق الغرب" انتهت بعون رئيساً للجمهورية وبجنبلاط يبحث عن حيثيته تحت عنوان " الحفاظ على الخصوصية الدرزية. ومن تقاسموا السلطة وامتيازات "اتفاق الطائف" يراهنون على الرئيس عون لإنقاذ هذا الميثاق. وعون التزم بـ"الطائف" دستوراً، ولكن يبدو واضحاً بالنسبة اليه ان آليات تطبيقه ستكون مختلفة عما كانت عليه طوال الحقبة الماضية. من دفع ثمن تطبيق هذا الاتفاق قبل اكثر من ربع قرن، يجد نفسه أمامه وامام من ساهم في تدفيعه هذا الثمن، فكيف سيصفّي هذا الحساب الطويل؟ هل بطيّ صفحة هذا الماضي وبـ"عفا الله عما مضى"؟ ام بصفحة جديدة يبدأها بتطبيق "هذا الاتفاق" من قانون انتخاب يلغي كل الامتيازات وينهي تضخيم الأحجام التي ملأت الحقبة السابقة؟!
قد تكون كل هذه الهمسات والتساؤلات مجرد تحليلات او تخيٰلات. ولكن من يخرج من تفاصيل الصيغ الانتخابية التي تفصٰل على قياس هذا وذاك لتحرق تباعاً، وينظر الى مشهد التحوٰلات كاملاً على مدار ربع قرن، يمكنه ان ينتظر أربعة أشهر إضافية ليكتشف اذا كان ما بعد عون رئيساً سيبقى كما قبله.