المشكلتان العالقتان في الأسابيع الأخيرة أمام مجلس الوزراء اللبناني هما: قانون الانتخابات، والموازنة العامة للدولة للعام الحالي. ويأتي الشدّ في اتجاهين متناقضين من جهاتٍ سياسية متصارعة. فرئيس الجمهورية (ويوافقه الأمين العام لحزب الله) يريد قانونًا انتخابيًا جديدًا عامًا. ووزير المال، ومن ورائه رئيس مجلس النواب، يريد إقرارًا للموازنة العامة للدولة بحسب المشروع الذي قدّمه. أما الفرقاء السياسيون الآخرون فيتراوحون اقترابًا أو ابتعادًا بين المعسكرين، اللذين يتبادلان الإيقاف والتعطيل، كلٌّ لمشروع خصمه. والمسألة الآن أنّ الطرفين، بل الأطراف، واقعة تحت ضغوط المُهَل والزمان والمُدَد، وقِدْمًا قال أبو القاسم القشيري نقلاً عن شيخه أبي علي الدقّاق: الوقتُ مَقْت!
بدأ التحول قبل أقلّ من شهر عندما وصل رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء للقول - عندما طلب وزير الداخلية دعوة الهيئات الناخبة إعدادًا لانتخابات الربيع بحسب القانون - إنه يفضّل الفراغ على إجراء الانتخابات بحسب القانون الحالي! وقد فعلها الوزير أخيرًا من دون موافقة الرئيس!
وقد ارتاع الجميع من هذه الإمكانية التي جرؤ عليها الرئيس، لأنّ معناها - إنْ كانت - عدم وجود مجلس نواب وسلطة تشريعية بعد شهر مايو (أيار) المقبل! وقد كان «الفراغ» السابق في سُدّة الرئاسة على مدى عامين ونصف هو السلاح الأمضى الذي جرى استخدامُهُ من جانب الجنرال والأمين العام، للإرغام على انتخاب الجنرال للرئاسة. وما تصور أحدٌ أن يشهر الرئيس الجديد سلاح الفراغ المَخوف ضد مجلس النواب، أو لنقل إنها المرة الأولى في تاريخ لبنان التي يُطرحُ فيها هذا الاحتمال، بعد أن تركّز التعطيل من قبل على الرئاسة وعلى تشكيل الحكومة أو الحكومات!
على أنّ «التحول» الراديكالي هذا الذي بدأه الرئيس، ما اقتصر على هذه الناحية من السياسات العامة للدولة والرئاسة. فبعد التهديد بالفراغ أو أن يكون هناك قانون جديد للانتخاب بحسب مزاج الرئيس والأمين العام، جاءت تحولات الرئيس تترى: الاتجاه إلى مصالحة الأسد علنًا، تارة؛ لأنه يمثل النظام والدولة والشرعية، وطورًا لأنه يكافح الإرهاب، وطورًا ثالثًا لأنه ينبغي التفاوُضُ معه لكي يستعيد اللاجئين الذين يثقلون كاهل لبنان واللبنانيين. وهنا لاقاهُ الأمين العام أيضًا بعرض وساطته بين الحكومة والنظام السوري بحجة إعادة المهجَّرين إلى الديار التي هجَّرهم منها نظام الأسد ذاتُه!
موقف رئيس التيار الوطني الحر سابقًا، ورئيس الجمهورية الحالي، من الأسد ونظامه معروف، وهو لا يختلف عن موقف الأمين العام الذي يقاتل إلى جانب جيش الأسد وميليشياته منذ مطالع عام 2013، والأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية تتعاون مع أجهزة الأسد منذ بداية الأزمة بين نظام الأسد وشعبه عام 2011، لكنّ السياسة الرسمية للدولة اللبنانية كانت منذ عام 2011: النأي بالنفس الذي ما عنى الشيء الكثير لجهة الحياد ومنع عبور الحدود بالاتجاهين مَثَلاً، وإلا فكيف يذهب الآلافُ من مقاتلي «حزب الله» إلى سوريا من دون حسيبٍ ولا رقيب. وكيف يجري القبض على آلافٍ آخرين بحجة أنهم ينوون الذهاب للقتال مع المعارضين للأسد؟! وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى النأي بالنفس أو الحياد؟ لقد اتخذ السياسيون اللبنانيون أيام الرئيس ميشال سليمان بالإجماع هذا القرار في «إعلان بعبدا» الشهير لتجنب النزاع الداخلي، بالنظر للانقسام العميق بين اللبنانيين في الموقف من النظام السوري بين مؤيدٍ ومعارض. وقد قال عشرات السياسيين اللبنانيين عندما تدخل «حزب الله» في سوريا إنّ هذا التدخل لا يخالف إعلان بعبدا فقط؛ بل يعرّض لبنان لأخطار الإرهاب، ويزيد الكباش والنزاع في الداخل. أمّا الآن فإنّ رئيس الجمهورية الجديد نفسه (وليس رئيس التيار الوطني الحر حليف حزب الله منذ عام 2006)، هو الذي يعلن انحيازه إلى النظام السوري بداعي تقدم الأسد على خصومه في حرب الكر والفر المستمرة في الجوار منذ ست سنوات، التي تسببت في تهجير عشرة ملايين بالداخل السوري والخارج، ومقتل أكثر من نصف مليون، واعتقال أكثر من مليون، تقول المنظمات الدولية إنّ عشرات الآلاف منهم أعدموا في السجون!
وجاء التحول الثالث في مواقف رئيس الجمهورية عندما صرّح باستمرار الحاجة إلى سلاح «حزب الله» في مواجهة إسرائيل. ومرة ثانية وثالثة؛ فإنّ الموقف الرسمي للدولة اللبنانية، الذي على أساسه صدر القراران الدوليان 1559 و1701 يعتبر أن الجيش تعاونه القوات الدولية هو الذي يحمي الحدود، وأنه لا شرعية لأي سلاحٍ آخر على الأرض اللبنانية؛ ولذلك فإنّ الدولة اللبنانية وجيشها يتلقيان منذ عقدٍ وأكثر المساعدة من أميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية، في العتاد والكثير، لإقدار الجيش على حماية الحدود ولجهتي إسرائيل وسوريا، وإلى ذلك وقبله وبعده: حضور القوات الدولية مع الجيش في جنوب الليطاني. أما لجهة الشرق، ولأنّه لا اتفاق داخليًا على مدّ نطاق عمل تلك القوات؛ فإنّ هناك دعمًا للجيش في إقامة أربعة أفواج لحراسة الحدود، وهذه المرة بحجة مكافحة الإرهاب!
لقد تزامن التحول الثالث للرئيس باتجاه تبني سلاح «حزب الله» تبنيًا كاملاً (في جنوب لبنان، وفي قتاله في سوريا) مع تحول أو عودة من جانب الأمين العام للحزب إلى تهديد إسرائيل بالحرب. وهذه المرة ليس لأنها ما تزال تحتل أرضًا لبنانية؛ بل لأنها تملك سلاحًا نوويًا وأسلحة دمارٍ شاملٍ أُخرى لا تملكها إيران. وبالطبع، وكما هو معروف، اقترن ذلك بتهديد الولايات المتحدة، وتهديد دول الخليج العربية، ووضعها في سلة واحدة مع العدو الصهيوني، مثلما هي عادة الأمين العام!
وهذه المرة ما صمت الرئيس أيضًا، فعندما ردَّ الإسرائيليون على هجمة الأمين العام، اعتبر الرئيس ذلك تهديدًا للبنان بالحرب، وقال إن العدوان إن حصل فسوف يلقى الردَّ المناسب!
إنّ دوافع الأمين العام معروفة؛ وهي تتلخص في إلهاء العرب عما ارتكبه وما يزال في سوريا، والدخول في الحملات المتبادلة بين إيران وإدارة ترمب، والانزعاج من تقدم قوات الشرعية باليمن على الانقلابيين الحوثيين الذين تدعمهم إيران.
لكنْ ما دوافع رئيس الجمهورية، ولماذا هذا الحرص على موافقة الأمين العام للحزب في كل شيء؟! لقد كان مضحكًا لجوء المعارضين للحزب بالداخل اللبناني للقول إنّ مواقف الأمين العام تُحرج الرئيس اللبناني! إذ كيف تُحرجُهُ ما دام هو الذي يُسابقُ وينافسُ الأمين العام وليس العكس؟! فما يقوله الرئيس معناه أنه في جنوب الليطاني لا يحضر الجيش والقوات الدولية فقط؛ بل ميليشيات «حزب الله» أيضًا، وإلا فكيف ستقوم بالرد المناسب إذا هاجم العدو المنطقة؟! ثم ما معنى ومقتضيات القرارات الدولية التي استمات لبنان للوصول إليها؟ ولماذا يساعد العرب والدوليون الجيش اللبناني ما دام الرئيس لا يعتمد عليه بل على «حزب الله»!
إنّ معنى هذا كلّه أنّ هناك فريقًا واحدًا متعاضدًا يريد أن يتحكم بالسياسات اللبنانية الداخلية والخارجية والعسكرية والأمنية، وهذا أمرٌ لا يمكن أن يمشي في لبنان رغم احتلال بيروت واغتيال الناس، وتخويفهم تارة بالإرهاب، وطورًا بإسرائيل..