فضيحة أن يستقبل بعضنا مارين لوبين. فضيحة أكبر ألاّ يستقبلها بعضنا الآخر لأنّها لا تغطّي شعر رأسها. هناك ألف سبب وسبب للامتناع عن استقبالها، لكنّ الإعلان عن تلك الأسباب جاء قليلا أو خافتا. وليد جنبلاط وسمير جعجع ميّزا نفسيهما مشكورين. سعد الحريري نبّهها إلى الفارق بين الإسلام والمسلمين وبين الإرهاب. أغلب الظنّ أنّها لم تتنبّه. نبيه برّي، بشطارته المعهودة، لاذ بالفرار إلى الخارج. «حزب الله» صمت وفرّ إلى الداخل، وخيّب مرّة أخرى آمال تابعيه «المناهضين للعنصريّة». الحزب الشيوعيّ أصدر بيانا، لكنّ أعلى مراتب قوّته إصدار بيان. تأييد مارين لوبن لبشّار الأسد أسكت بعض المتشدّقين باليساريّة والتقدّميّة.
أكثر ما رسخ في الذهن وما تناولته العناوين كان الموقف المسيحيّ في إجماله. لقد رحّب وبالغ في الترحيب، كاشفا، وليس هذا بجديد، أنّه مأزوم ومضطرب، لا يجد حلاّ لمعضلة «مسيحيّي المشرق» إلاّ في تلك العنصريّة التافهة وفي عنصريّين آخرين يشبهونها وراء البحار.
فهذا الإجماليّ المسيحيّ يتراءى له أنّ من يعادي الإسلام والمسلمين هو من يوفّر للمسيحيّين حياة أفضل بين المسلمين! كيف؟ بالأساطيل ربّما.
المشكلة هنا تتعدّى استلهام التاريخ الكولونياليّ أفقا للمستقبل. إنّها تنمّ أيضا عن نازع انتحاريّ خطير سبقه تمرينان على الانتحار: مرّة عند التصفيق لبشّار الأسد بوصفه من يقود «حلف الأقلّيّات»، وليس بوصفه من استأنف سياسة أبيه في تدمير لبنان وقتل سياسيّيه وصحافيّيه. ومرّة عند التصفيق لـ «حزب الله» بوصفه «حامي الأقلّيّات»، لا بوصفه أكبر المعطّلين لقيام دولة في لبنان.
لكنْ ما الذي جعل المسيحيّين هكذا؟ لماذا لا تُسمع اليــــوم بقـــوّة أصوات كأصوات بشارة الخوري وحميد فرنجيّة وفؤاد شهاب وجان عزيز وميشال الخوري وسمير فرنجيّة ونسيم مجدلاني وسواهم من الحريصين على العيش المسيحيّ– الإسلاميّ، وعلى الحضور والفعل في البيئة العربيّة الأعرض؟
ما الذي جنّن المسيحيّين اللبنانيّين؟
إدانة الاحتفال بمارين لوبن لا تكتمل من دون مراجعة عميقة ومديدة لتاريخ من السلوك أشعر المسيحيّين بأنّهم لا يُستشارون في أمر بلدهم وفي مصيره. النهج هذا بدأ مع الاستيلاء العسكريّ في الجوار العربيّ، وكان استعراضه الأوّل في 1958، حين أراد عبد الناصر جرّ هذا البلد إلى موقع يتعارض مع مصالحه الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة. وهو بلغ ذروته الأولى مع تحويل لبنان «هانوي العرب» التي تعبرها المقاومة الفلسطينيّة لتحرير فلسطين. ثمّ كانت الذروة الأعلى مع حكم الوصاية الأسديّة التي توّجتها 15 سنة من التهميش الذي لم يعترض عليه أيّ صوت لبنانيّ قويّ خارج البيئة المسيحيّة. أصحاب هذه الأصوات القويّة رسملوا على استبعاد «الأخوة في الوطن». هذان الصمت والرسملة هما مصدر العونيّة الأوّل.
إلغاء الآخر لم يبدأ مع «داعش»، بل ورثته «داعش».
احتفال الإجماليّ المسيحيّ بمارين لوبين ينمّ عن جنون وعن نازع انتحاريّ يضع المسيحيّين خارج كلّ ما هو مضيء وتقدّميّ ومستقبليّ في الغرب، كما يضاعف أسباب خوفهم حيث يقيمون في بلدانهم. إنّه يؤاخيهم بحثالات الغرب ومهرّجيه الأشرار، كما يقدّمهم شركاء صغارا لمن يتجبّرون على العمّال المهاجرين في فرنسا، وعلى الفرنسيّين ذوي الأصول المسلمة.
إلاّ أنّه ينمّ أيضا عن قسوة غير اعتياديّة وبالغة الاستبداديّة حيال المسيحيّين اللبنانيّين، قسوة لا تتوقّف عن فرض صوابها السياسيّ المتنازع عليه، ولا تكفّ عن معاقبتهم لأنّهم بنوا بلدا يبقى، بقياس الحرّيّة، رأس المنطقة بلا منازع.