قبل أيام, كنت في نزهة قادتني إلى قلعة الشقيف التاريخية في منطقة النبطية والتي تقع على رأس جبل وعلى حافة حادة تُطِل على وادي مجرى نهر الليطاني . دخلتها بعدما تم ترميمها قبل مدة قصيرة, وبعدما تم تفريغ غُرفها الكثيرة من الأتربة التي ملأتها بسبب التخريب الذي لحق بها في فترات متعددة بسبب توالي سيطرة الجيوش المتعددة الغازية عليها والإهمال المزمن الذي لحق بها . فصرت أتجول في أقسامها وأتأمل هندسة بنيانها المهيب .
جدرانها عبارة عن أحجار صخرية ضخمة يزن الواحد منها مئات الكيلوات, هندسة مُتقَنة لمدينة صغيرة فيها كل ما يحتاجه ساكنها السلطان . قاعات اجتماعات, غرف عُلوية وسُفلية للنوم, مساحات للتنزه, أقبية سجون للأعداء الخطرين لحكام القلعة الذين تناوبوا عليها على مرّ قرون طويلة .
إقرأ أيضا : التوضيح ضروري عن رسالة شيعة لبنان لإخوتهم العرب التي أرسلتها بالأمس
هي قلعة كباقي القلاع في لبنان وغيره, زرت غيرها أيضا في بعبلك وصور وتجولت فيها, وكنت أسمع بأذن عقلي وقلبي صوت حجارتها الضخمة تحكي حكايا حُكَّام جبّارين بادوا وباد ذكرهم, ولكنه لا يزال حكام اليوم يسيرون على طريقهم غير معتبرين, وكأنهم من جنسٍ غير جنس من كانوا قد سكنوها ثم بادوا !!
بطيبعتي أنظر للأمور نظرة المتدبر في كل شيء, وأحاول على الدوام أن أقرأ -في كل ما أراه وأسمعه- ما كتبته الأحداث التاريخية على صفحة آثارها, سواء كانت أحداث بعيدة زمنيا ومكانيا أم قريبة . فالله تعالى قد هيأ الأسباب لتبقى هذه الآثار للأجيال المتتالية كي يعتبروا, ثم أمرنا أن نزورها ونتدبر في أمرها ونستمع إلى أخبارها ونأخذ من عِبَرها, كما ورد في الآية الكريمة أعلاه .
حجارة غرف هذه القلاع تحكي أن سلاطين جبّارين, أقوى وأشدُّ من سلاطين اليوم "بكثير", قد كانوا فيها, أصدروا من بين حجارتها أوامر يعلم الله تعالى ماهيتها وماذا جَرَّت على الرعيّة من خيرات جليلة أو شرور مهولة . تحكي أخبار جنود السلطان الذين نفَّذوا أوامره الجبَّارة من دون تدبُّر, ثم بادوا كما باد سلاطينهم . أحجار ضخمة لأقبية سجون مُعتمة تختزن أصوات السجناء المُعَذَّبين الذين سُجنوا فيها وعُذِّبوا وقُتِّلوا, ولكن أصواتهم لا زالت تتردّد بين الجدران ولا يسمعها إلا من ألقى السمع بآذان عقله وقلبه . أحجار ضخمة تحكي عزم وجبروت الماضين, وأنهم رغم جبروتهم -الذي تحكيه سنوات طويلة وزنود قوية احتاجتها هذه القلاع الضمة لتُبنى كي يسكنها سلطان بشري لسنوات قليلة - فإنهم قد بادوا بعدما أبادوا بأوامر صدرت من بين حجارتها أمماً وخلائق .
إقرأ أيضا : رسالة المسلمين الشيعة في لبنان إلى كل مسلم في أصقاع الأرض ولا سيما إخوتنا العرب
أحجار تحكي أن من سكنها كان من جنسنا كما نحن من جنسهم, وأن سنن الحياة لم ولن تستثني أحداً مهما عظم أمره وعلا شأنه . عِبَرٌ ودروس كثيرة وعميقة -وهي أليمة على كل حال- محفورة على تلك الجدران الصخرية الضخمة التي تناوب على سُكناها سلاطين وسلاطين, وهي عِبَرٌ لا يغفل عنها إلا أعمىً وأصم .
وأنا أسير بين تلك الآثار وأستمع لحكايها, كنت أعيش لذة الحكمة في أمر الله تعالى لنا في الآية أعلاه وغيرها من آياتٍ (قل سيروا في الأرض فانظروا) . وكأني بتلك الأحجار تنادي علينا ليل نهار, ولا سيما على كل سلطان وعلى أعوانه وجنده -كبر سلطانه أم صَغُر- أن زوروني واعتبروا, فإن من هم أعظم وأشدُّ منكم قوة قد بادوا وباد ذكرهم معهم, فكل من عليها فانٍ, وأن ليس للإنسان إلا ما سعى, وقد خاب من حمل ظلما .
قال مليك السماوات والأرض وربُّ الدُّنيا والآخرة في كتابه الحكيم :
{أ فَلَم يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعمَى الأْبصَارُ وَ لكِن تَعمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [سورة الحج / آية 46]
نسأل الله حسن الختام