هل توقع الإنسانُ يوماً أن يحسب عدد أيامه المتبقية؟ وهل تخيل نفسه على السرير منتظراً الموت؟ وهل بإستطاعة كلمة واحدة أن تغير مجرى الحياة، وتنبهنا أننا والموت على مسافةٍ قريبة؟ تتعدد أسبابُ الموت، من حادث سيارة، جريمة قتل، ذبحة قلبية، أي مرض معين.....لكن يبقى مرض السرطان ذلك الإنذار الذي يذكّر صاحبه بالموت؛ ذلك الرأس الأصلع، الجسم المتورم، الوجه الشاحب، الألم المتكرر، السعال، الألوان الجديدة المصبوغة على الجلد، العلاجات الكيميائية، الأدوية، الجلسات كلها علامات ذلك الإنذار "السرطان". وأصعب لحظة في فترة هذا المرض على الطبيب والمريض معاً هي لحظة معرفة المريض بإصابته بهذا المرض.
يدخلُ مكتب الطبيب، يقولُ له:" تفضل اجلس." ينظرُ في أرجاء الغرفة منتظراً، فالكل يعلم وهو لا يعلم. وتتصاعد الأحاديث درجة درجة من كيف الحال وصولاً إلى أقساها ليختمها الطبيب قائلاً: "النتيجة سلبية، وبيّن معنا سرطان، بس ما تخاف هيدا إلو علاج"، هكذا يصفُ الدكتور معين فوعاني عملية إخبار مرضى السرطان وشرح مراحل العلاج لهم.
عبارة "معك سرطان" تفتحُ سلسلة من الأسئلة والحسابات لدى المريض، وأول ما يطرحه على الطبيب: " قديه بدي عيش، ورح إشفى؟". أسئلة يبقى التقدير (المرتبط بحالة كل مريض) جوابها الوحيد، كما يقول فوعاني، بعدها تبدأ رحلة العلاج ولكن ماذا لو أن المريض لا يعلم أنه سرطان؟
إقرأ أيضًا: الصحافة الورقية: بعد السفير من التالي؟
عندما لا يعلم أنه سرطان!
يعيشُ العم أسعد (67 عاماً) مع مرض السرطان وكأنه شخص يقتله لكن لا يعرفه ولا أحد يُحدثه عنه.
بدأت القصة بالصدفة، عندما قرر أحد الأقارب إجراء فحوصات للبروستات، تشجع العم أسعد وقام بإجراء الفحوصات نفسها، مع العلم أنه لم يكن يشعر بالألم. وعندما أبلغه الطبيب بأن النتيجة ربما تكون سلبية سرعان ما عاش حالة من الخوف والإرتباك. حمل ورقة فحوصاته وتنقّل بها بين الأطباء وصولاً إلى الطبيب الأخير، الذي طمأنه بطلبٍ من الأهل وخوفاً على صحته قائلاً:"النتائج إيجابية وتعاني بعض الإلتهابات البسيطة في البروستات، ولأنها موجودة منذ فترة طويلة بدأت تتحول إلى خلايا سرطانية لكنها في مرحلة مبكرة جداً ويمكن معالجتها، وذلك لا يستدعي الخوف أبداً فنسبة كبيرة من الرجال تعاني منها". هي روايةٌ بسّطها الطبيب على مريضه، خصوصاً إذا طلب الأهل عدم إخباره بحالته، لكن الرواية لم تكن كذلك أبداً، فتقول إبنة أسعد " يعتقدُ أبي أنه يعاني إلتهابات بسيطة تتحسنُ مع العلاج، لكن الطبيب أخبرنا أن المرض منتشر منذ فترة طويلة ووصل إلى الظهر والعظام ومنطقة الحوض، أما نسبة الشفاء معقولة لكن لا يمكن توقع وصولها إلى مئة بالمئة".
إقرأ أيضًا: لا جديد حول قانون الإنتخاب، بل مخاوف جديدة!
وبالفعل تجاوب العلاج مع جسد أسعد بنسبة عالية فاقت ما كان يتوقعه الطبيب. ومنذ مرضه وأسعد لا يلاحظُ شيئاً، تعلّق بكلام الطبيب إلى حد الثقة، يتابع علاجه ويقوم بكل جلسات العلاج المطلوبة. وإذا صادفتَ أسعد تجده كأي رجل، يخرج إلى عمله، يزور أقاربه، ويتابع حياته بشكل طبيعي كأن شيئاً لم يكن. ولكن هل لإخفاء المرض عنه فضلاً في تقدم العلاج؟ تقول الإبنة :" لو عرف إنو معو السرطان كان مات دغري، ومع العلاج وين كنا ووين صرنا."
وبدوره يقول الدكتور فوعاني "إن عملية إخبار المريض من أصعب المهمات، فلا يمكن توقع ردة فعله مهما كان جباراً وقوياً، وهنا يعود ذلك لأسلوب الطبيب من جهة وشخصية المريض من جهة أخرى، فالطبيب يجب أن يُمهّد تدريجياً للمريض حالته فلا نقول مثلاً "إنت معك سرطان، يعني إنت ميت" بل نشرح له عن مرضه وعن فترات علاجه ونطمأنه، أما من ناحية المرضى فهناك فئة تخاف كثيراً، وهنا بناءً على طلب الأهل لا نخبرها بالمرض حرصاً على تدهور حالتها، وهناك فئة تكون أقوى من أهلها بكثير وتتقبل المرض والعلاج وترضى بكل ما حلّ بها".
كان التمثيل هو السبيل الوحيد لعائلة أسعد كي لا يشعر بمرضه، تقول الإبنة: "كنا نمثّل عليه ونتعامل معه على أساس أن حالته طبيعية وليس مريضاً، ومع تجاوب العلاج ننسى انه مريض". وعن تبرير الألم يقول أسعد " إيه تعبان بس العمر قلو حق". ويتباهَ بشفائه وتقدُم العلاج، كأنه نجح في إمتحان بتقدير إمتياز قائلاً: " كان عندي شوي التهابات، هيك قلي الحكيم وعم بتحسن".
العم أسعد اليوم يعيش مع العلاج بشكل طبيعي، لا أحد يصدق أنه مريض سرطان وهو نفسه لو علم بذلك لن يصدق.
إقرأ أيضًا: أطفال داعش: إجبار الطفولة على الإرهاب
في إنتظار الموت
إذا كان المريض لا يعلم بمرضه، فهناك من كان يعلم ولم يتكلم. الحاجّة كاملة (52 عاماً)لاحظتْ الورم على ثديها قبل أربعة أشهر من زيارة الطبيب، خافتْ الإعتراف به أولاً ومن إرباك عائلتها ثانياً، فتجاهلته معتقدةً أنه ربما سيتركها ويرحل. وبعد أن ساءت حالتها لجأت إلى الطبيب وكأنها تدخل لتقول له: "إيه بعرف، معي سرطان".
بدأتْ بالعلاج لكنه ليس الشفاء، فالمرض انتشرَ في كافّة جسدها. صبرتْ على الألم عامان، تستقبلُ ضيوفها وتلاعبُ أحفادها متمسكةً بضحكتها، وروحها المرحة. وفي تلك الليلة بعد أن سيطرتْ عليها أشدّ لحظات الألم قالت لعائلتها: "موجوعة خدوني عند الحكيم"، وسرعان ما نُقلتْ إلى المشفى لتصبح جسداً صلباً لا يتحرك. سألتْ أحد زوارها عن شفاءه من مرض بسيط وما أبعد الشفاء عنها، ومن على فراشها أرسلتْ سلاماً إلى صديقاتها وأقاربها "سلميلي على إمك وإختك"، يخطو كل زائر لها خطوة ثم يعود عشرة، تدمع عيناه وسط صمتٍ مبكي. نظراتٌ حائرة ولحظاتٌ يكون الصمتُ سيدها، أسئلة غريبة حائرة تبحثُ عن إجابةٍ مستحيلة. وإذا سُئِل زوجها عن العلاج، يهز رأسه قائلاً:" أيّا علاج خلص بطّل في علاج صار كلّو مُسكّنات، والدكتور حطنا بالجو والأمر صار بإيد رب العالمين." يقول فوعاني:" هذه المرحلة تسمى (مرحلة العلاج التخفيفي) أي ما قبل الموت، فنقوم بإعلام الأهل بأن أيام المريض أصبحت معدودة، ثم نحاول قدر المستطاع تخفيف ألمه بالمسكنات." مضيفاً "أن المريض في هذه المرحلة يكون أقوى من الجميع أحياناً فهو من يقوينا ويصبرنا" وكذلك هي حالة الحاجة كاملة.
التحضير للوداع مؤلم ولكن مرضها يؤلمها أكثر، جلستْ الإبنتان تائهتان، بكتا دموع الوجع واستمرّ بكائهما طويلاً، إحداهما تقول:" يا إمي دخيلك ما تتركيني، ما تروحي..." فقال لها الأخ :" يعني بدك ياها تضل عم تتوجع هيك؟". استجابت الأم لإبنتها في ذلك اليوم ولم ترحل.
وفي صباح اليوم التالي، اجتمعتْ أربعة ممرضات حولها تشكو إحداهن للأخرى من الجهاز الذي لم يعد يتجاوب مع حالتها. فقال الإبن مازحاً :" ليه هالجهاز بيعمل صوت كأنه عم يبكي؟"، أجابته الممرضة " عم يبكي لأنه تعب وعم يتوجع". انتقل المرض إلى أجهزة ذلك المشفى المتواضع، هي تفحصُ جسداً تمسكتْ به روحه إلى حد الألم، وما إن أذن المؤذنُ "الله أكبر" حتى أذن الخالقُ للرّوح أن تصعد.
لا يمكن الوصول إلى نتيجةٍ محددة مع مرض السرطان، ولكن لا يعني أن الموت هو النتيجة الوحيدة. فحالات الشفاء كثيرة، يقول الطبيب فوعاني: " لولا حالات الشفاء لكان الأطباء انتحروا". وحالات التعوّد والتعايش مع المرض وعلاجه أيضاً كثيرة. الحاجة كاملة وغيرها عانوا وماتوا، أسعد لا يعلم ويعتبر أن كل يوم من حياته هو تحسن، وهناك مرضى يخطون طريق الشفاء حتى ولو كان طويلاً، لكن إن كان قبل الموت إنتظار وما بعده فراق، فإن الإستمرار على قيد الحياة شفاءٌ بعده "بقاء".