منذ ساعات الصباح الأولى تقف "أم علي" في باحة قصر العدل تنتظر قدوم القاضي. تارةً تجلس على المقعد الخشبيّ لتُراقب عن كثب كلّ من دخل، فتسال كلّما رأت رجلاً أنيقاً يرتدي بدلة وربطة عنق: "هل هذا هو المحقّق (...)؟"، وتارة أخرى تروح وتجيء مشياً في الممرّ وهي تلملم طرفي عباءتها السوداء الطويلة "بانتظار الفرج".
تمرّ ساعة تلو الأخرى، والسيّدة الستينيّة لا تزال على انتظارها، تطلّ برأسها بين الفينة والفينة باتجاه رئيسة القلم لتسألها: "قولك ليش تأخر الريّس؟".. "أيّ ساعة بيجي عادة؟.. بدّي شوفو". تعرض الموظّفة على "أم علي" المساعدة بعد أن تسألها "مش إنت زوجك اللي موقّف عنّا؟" تردّ الزوجة :" أيه أنا.. رجع وقّفو القاضي.. بدّي أعرف ليش؟"، فتعقّب إحدى النساء الموجودات في القلم ممازحة: "ولووو يا حجّة.. إرتَحتي منو.. بدّك ياه يطلع؟". تجيب الحجّة: "هيدا زوجي سند ضهري.. بدي أوقف معه لكن لشو تزوجنا مش لإسندو ويسندني؟".. ثم تولي وجهها وتعود الى دوامة الإنتظار.
في الزاوية الأخرى، تقبع "أم جورج" ومعها ابنتها الكبرى على باب محكمة الجنايات بانتظار إعلان بدء الجلسات. لم يستطع بكاء الأم ولا دموعها التي بلّلت قميصها الأزرق، ولا تهدئة ابنتها لها، أنّ يخفّف من كدرها، أو يساهم في تبديد قلقها. كل ما تستطيع الإبنة الكئيبة هو أن تمسح دموع أمّها، بمنديلٍ أبيض بات بالإمكان عصره. كلّما تذكّرت الأمّ المفجوعة كيف أذنت لإبنها بالخروج من المنزل ليلة توقيفه، تعود الى النحيب، وتردّد العبارة نفسها: "كنت حاسّة إنو عم يتعاطى ويعمل شي غلط.. الحق عليّ خليتو يضهر".
ومن السيدة الباكية تدنو إمرأة (أُوقف إبنها بدعوى مماثلة) لتواسيها في مصابها، تتدحرج دموع الأم الثانية وهي تقول: "طولي بالك، ولادنا هول مرضى بدن علاج. ورطّولنا ياهن. الله لا يوفق الكبار اللي بعدن عم يسرحوا ويمرحوا برّا".
جلست أنا على المقعد الخشبي المقابل، علّني ألجم إحساسي عن المشاركة في "حفل البكاء الأنثويّ". ومنّي إقتربت إمرأة كانت لوقت طويل متسمّرة على ذاك المقعد، لتهمس في أذني " يا حرام عهالأم.. هيدا إبنها.. ضناها.. يا حرام !". في تلك اللحظة، صرخ المباشر: "محكمة!" إيذاناً ببدء جلسات المحاكمة. تقترب "أم جورج" بخطوات غير ثابتة. ما إن تطأ قدماها باب المحكمة وتشاهد فلذة كبدها خلف القضبان حتّى يملأ نحيبها أرجاء المكان، تتأبطها إبنتها قبل أن تنهار.
حينها ودون أن ألتفت ورائي أدرت ظهري لمشهد يعتصر له القلب ألماً. وها أنا أهمّ بالخروج لألتقي مجدّداً بـ "أم علي" تكلّم نفسها: "قال بكّير بعد ليضهرو.. بدّن يخلولي ياه موقوف وأنا كيف بدّي كفّي إيامي بدونك يا سندي؟؟!".
"أم علي" و"أم جورج" عيّنتان لما تعانيه الزوجة أو الأمّ في مدرسة الحياة القاسية.. ليصحّ قول جبران خليل جبران :"وجه أمّي وجه أمّتي"..