"كلمالو لبنان بيرجع لورا"، مقولة تتردد على ألسنة اليائسين والخائبين التوّاقين إلى بلد بحجم الآمال والأحلام، في محاولة لتوصيف الواقع الأليم. لكنها في حال واحدة، باتت مطلوبة وضرورية! نعم، فيا ليت عقارب الساعة تعود بلبنان وشعبه إلى زمن كانت فيه دور السينما صرحاً فنياً ثقافياً يُحترم ويُصان. لا نتحدث عن الموضوع من زاوية الإنتاج والأعمال التي تُعرض، ولا من باب تقلّص أعداد صالات السينما مقارنة مع ما كانت عليه في "أيام العزّ"، بل تحديداً فيما يتعلّق بسلوك بعض الروّاد "السوقي" والبعيد كل البعد عن الحضارة والرقي.
فما القصة؟!
كانت عقارب ساعة الزميل الصحافي فيليب أبو زيد قد تخطّت الواحدة والنصف بعد منتصف ليل السبت الفائت، ومع هذا ولج إلى مدوّنته الخاصة ليكتب عن "تجربة مشاهدة فيلم مزرية في بيروت". بأسف وغضب يستعيد في حديث عبر موقع "لبنان 24" تفاصيل ذاك المساء من يوم عطلته اليتيم في أسبوع زاخر بضغوطات العمل، فيُخبر انه اختار التوّجه إلى إحدى دور السينما المرموقة في قلب العاصمة بيروت. الخيبة الأولى سُجلّت لحظة دخول الصالة، اذ تبيّن أنه تمّ الاستيلاء على المقاعد التي كان قد حجزها. لم يقم أبو زيد بأي ردّ فعل غاضب بل عالج الأمر بالجلوس في مكان مجاور، بهدوء وسلام. صفتان، لم يتحسسهما طوال مدّة عرض الفيلم! يقول: "كان ثمة رجل جالساً في إحدى زوايا القاعة الخلفية، حاملاً كيسين كبيرين (أكياس من السوبرماركت وليس من الأكشاك الموجودة خارج السينما) وبداخلهما ما لذّ وطاب من "الشيبس" والحلوى والمشروبات و"الهوت دوغ" الذي فاحت رائحته في كلّ الأرجاء. ما إن بدأ الفليم، حتى أتى شخص آخر، حاملاً بيده مصباحاً يدوياً صغيراً، وتوّجه ليجلس إلى جانب "الناجي من مجاعة الحرب العالمية" (على حدّ وصف أبو زيد) سائلاً إياه: "وين الفواحش؟"!.
وبدأت المعاناة مع الأصوات الصادرة عن فتح الأكياس والمضغ و"العلك"... والتجشوء! ولا تنتهي القصة هنا، فالشخصان لم يتوانيا لحظة عن التعليق بصوت مرتفع، رغم مناشدات الحاضرين الالتزام بالصمت والهدوء.
ويُخبر أبو زيد أنه حينما أدار رأسه بغية رؤية هذين الشخصين "عين بعين"، رمقه أحدهما بنظرة مريبة وساخرة، قائلاً: "مزعوج الحاج!"
حالٌ درامية، تراجيدية، عاشها أبو زيد وسواه ممن يدفعون مبلغاً ليس زهيداً لمتابعة فيلم في السينما، وهو خيارٌ يتوّسله محبو الثقافة والفنون والمدركون أهمية هذا الصرح وخصائصه و"هيبته". وهنا يعلّق أبو زيد: "للأسف، فإن عمليات نسخ الأفلام وسرقتها وبيعها على أقراص مدمجة في الشوارع ما زالت مستمرّة. لكن ما يؤلم أكثر هو ما يلحق بالأشخاص الذين فضلّوا تكبّد مصاريف حضور الفيلم في "مكانه المناسب" وبطريقة شرعية على متابعته في المنزل مع كلّ وسائل الراحة والأطايب، وبكلفة لا تتعدى الدولارات القليلة"!.
يوافق أبو زيد على أن "ثقافة احترام دور السينما و"إتيكيت" الدخول إليها باتت للأسف مغيّبة"، محمّلاً في الوقت عينه القيّمين على هذه الصالات والمراكز التجارية الموجودة فيها مسؤولية كبيرة، ذلك أنّ من واجباتهم تأمين الهدوء والنظام والتدخل الفوري حينما تستدعي الحاجة. ولعلّه بات ضرورياً في هذا الإطار التذكير بأدوار السينما وأهدافها التي لا تقتصر أبداً على غايات الترفيه والتسلية، بل تتعداها لتكون إحدى الوسائل التغيير إجتماعياً وثقافياً وفكرياً، تماماً كما كانت عليه في السابق حينما كانت تلعب أدواراً لافتة في صوغ الحياة السياسية والاقتصادية والسياحية!
واذا كان الأمن الثقافي منقوصاً، فإن الأمن بشكل عام بدوره ضعيفا، ما يزيد "الطين بلّة". في الليلة ذاتها، وفيما كان روّاد السينما في بيروت يتقلّبون على نار بسبب "سوقية" البعض، كانت إحدى الصالات السينمائية في الدورة تشهد معارك عنيفة! بحسب ما نقلته وسائل إعلامية محليّة، يُظهر "الفيديو" مجموعة من الشبان ينهالون بالعصي على أحد الأشخاص، داخل القاعة أمام الشاشة العملاقة! وفقاً للمعلومات، فإن أفراد "العصابة" دخلوا المركز التجاريّ، كلّ على حدة، ونجحوا في تمرير العصي عبر إخفائها تحت ملابسهم، ثم اجتمعوا في صالة السينما وفعلوا فعلتهم الهمجية والمخيفة.
كيف نجح هؤلاء (وهم أكثر من شخص) بالدخول إلى "المول" "مدججين" بالعصي؟ ولمَ لم يتدخل أحدٌ من الأمنيين لحماية روّاد السينما؟ من يحمي المواطنين من خطر "الزعران" في أهون الشرور، ومن أخطار الإرهابيين في أسوأ الحالات التي لا تبدو بعيدة الحصول طالما أن الأمن سائبٌ؟
أسئلة كثيرة مُلحّة، وإجابات ضائعة ومتضعضة. الحديث عن الإجراءات الأمنية الهشّة على مداخل المراكز التجارية قد يثير الذعر بين المواطنين، لكنّ الاستمرار في الاختباء وراء الإصبع لم ولن يصنع بطولات ونهايات سعيدة كما في الأفلام!