كان لبنان، قبل نحو ثلاثة أشهر ونيف، استعاد حياته الدستورية في رحاب تسوية سياسية، واستأنف تطبيع علاقاته مع دول الخليج، واستعدّ لموسم سياحي واعد يعينه على وقف التعثر المالي - الاقتصادي، واسترسل في مناقشة قانون انتخابٍ يعيد إنتاج السلطة، بحسب ما ورد في صحيفة "الراي".
بين "ليلة وضحاها" صحا لبنان على قرع طبول الحرب مع اسرائيل، وعلى قصفٍ سياسي بالمباشر على السعودية وأخواتها، وعلى نكء الخلاف في شأن الملفات الحساسة، وعلى قرقعة صراعٍ لا هوادة فيه في شأن صيغٍ مشروطة لقانون الانتخاب أو القفز في المجهول.
بدأ "الانقلاب الناعم" على المناخ الانفراجي الذي أرْسته التسوية السياسية وعزّزه خطاب القسَم لرئيس الجمهورية ميشال عون، بسلسلة من المواقف التي أظهرتْ تبايناً يصعب طمسه، كالموقف من نظام الرئيس السوري بشار الأسد وسلاح "حزب الله" والعلاقة مع المجتمع الدولي والحرب الكلامية على المملكة العربية السعودية ودولة الامارات. ورغم إمرار قطوع تشكيل الحكومة الائتلافية بأقلّ تجاذبات ممكنة، فإن الصراع في شأن طبيعة قانون الانتخاب وصيغه أيقظ حساسيات سياسية وطائفية، وكان الأكثر إثارة فيه وضع البلاد أمام معادلة صعبة، فإما الاتفاق على قانون انتخاب جديد وإما لا انتخابات، الأمر الذي يفسح أمام مقايضات خطرة وعضّ أصابع في لعبة تفادي المجهول.
وبدا، مع تَعاظُم التباينات العلنية والمكتومة في شأن السياسة الخارجية وإدارة الاستحقاق الانتخابي في الداخل، وكأن "شهر العسل" بين أطراف التسوية أمام اختبارات مُرّة، خصوصاً ان رئيس الحكومة سعد الحريري اضطر للرد، وإن على نحو غير مباشر، على الرئيس عون، الذي أضفى شرعية على سلاح "حزب الله" ولم يتردد في فتح مواجهة مع الامم المتحدة.
وتجلّت ملامح هذه الانتكاسة المبكّرة في إدارة عون الظهر للهجوم العنيف الذي شنّه الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله على السعودية والامارات، فيما تولى الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الردّ على نصرالله، الأمر الذي كشف عن ان "الطبع يغلب التطبع" حيال المسائل الخلافية.
أما الأهم والأخطر في مظاهر "قلب الصفحة" في بيروت، التي بدت وكأنها اقتيدت من جديد إلى "قارعة الانتظار الثقيل" فكان قرع طبول الحرب مع اسرائيل عبر سيل من التقارير التي تحدّثت عن ان المواجهة المؤجَّلة بين "حزب الله" واسرائيل، اقتربتْ في ضوء الوقائع الجديدة التي أعقبت دخول دونالد ترامب البيت الأبيض وانقلابه على سياسة باراك أوباما حيال ايران.
فمنذ "التغريدة" الاولى لترامب التي أعلن فيها عزمه على إعادة النظر بالاتفاق النووي مع ايران ووضْع حد لنفوذها في الشرق الأوسط، كان واضحاً "أمر العمليات" الإيراني لأذرع طهران في المنطقة بالاستعداد للمواجهة، وهي التي تملك أوراق قوة أهمها جعْل اسرائيل "رهينة" تقايض ايران على أمنها إفساحاً في المضي قدماً في مشروعها في المنطقة.
فمنذ الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان العام 2000، تبدّلت وجهة المشروع الإيراني الذي أمسك بخيوط اللعبة في العراق بعد الغزو الاميركي العام 2003 وتحرك بدينامية أوسع مع إزاحة رفيق الحريري من المعادلة في العام 2005 قبل أن تتباهى طهران بأنها صارت تسيطر على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، من دون إغفال عزمها على توسيع دائرة نفوذها في اتجاه عواصم عربية أخرى.
ورغم ان "حزب الله"، نجا من حرب الـ33 يوماً مع اسرائيل في تموز 2006، وسارع الى بناء ترسانة عسكرية لإرساء «توازن رعب» يصعّب على اسرائيل خوض حرب مكلفة، فإنه وجد في نشر الأمم المتحدة نحو 15 ألفاً من جنودها وعدد مماثل من جنود الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية فرصة ذهبية تحمي ظهره وتتيح له الاستدارة في اتجاه الداخل.
فـ"حزب الله" المطمئنّ الى "اللا حرب" مع اسرائيل نجح في تغيير قواعد اللعبة في لبنان عبر عمليته العسكرية في بيروت في السابع من أيار 2008، ومن ثم في بناء تحالفٍ أتاح له إقصاء خصمه المحلي – الاقليمي الرئيس سعد الحريري عن السلطة، قبل ان يتحول "جيشاً" عابراً للحدود يقاتل في سوريا والعراق واليمن كأحد أهمّ أذرع المشروع الايراني في المنطقة على الاطلاق، مستفيداً من الاسترخاء الذي تنعم به الحدود مع اسرائيل.
والسؤال المحوري الذي يقضّ مضاجع بيروت بعد الخطاب الأخير للامين العام لـ"حزب الله" الذي توعّد اسرائيل بضرب أمونيا حيفا ومفاعل ديمونة واي مكان آخر في اسرائيل في حال عدوانها على لبنان، هو: هل المواجهة الاميركية - الايرانية ستفضي الى حرب كانت مستبعدة بين اسرائيل و"حزب الله" أم أن نصرالله استخدم "الهجوم الوقائي" كأفضل وسيلة لمنع اسرائيل من الجنوح نحو حرب لا يريدها "حزب الله" المنخرط في حرب ايديولوجية في المنطقة تحتل الاولوية المطلقة بالنسبة لايران؟
ثمة تقديرات ترى ان "حزب الله" يتعامل على محمل الجد مع إمكان الانزلاق الى حرب في اطار المواجهة الاميركية – الايرانية. فهذا الاحتمال مبني على ان إدارة ترامب، التي اعتبرت إيران "رأس الارهاب"، تفيد من حال العداء التي مارستْها طهران إزاء العالم العربي، وخصوصاً السعودية التي رأتْ بدورها وعلى لسان وزير خارجيتها عادل الجبير ان "ايران الراعية الاولى للارهاب في العالم"، وتالياً فإن الحرب التي كانت مؤجَّلة على مدى أعوام صارت أقرب من أي وقت، لأنه سيكون من الصعب على ايران التفريط بمكتسبات حققتها في غير مكان في المنطقة.
وبهذا المعنى جاء كلام نصرالله عن أنه لن تكون هناك اي خطوط حمر في المواجهة المقبلة مع اسرائيل، رداً على «العين الحمراء» التي توعد عبرها ترامب ايران بأنه ولى زمن التوسع في الشرق الاوسط، وهو الامر الذي يخشى معه انتقال لبنان من مجرد "صندوقة بريد" الى ما هو أدهى.
(وسام أبو حرفوش - الراي)