دوم تاك، دوم تاك... سكتت دقّات القلب التي ناغشت الطبلة لنحو 59 عاماً وضبطت إيقاعات الأغنية اللبنانية والعربية على نبض الحب والشغف والأصالة، رحل ملكُ الطبلة وعاشقُها المجنون سِتراك، مستودعاً آلته ذكرياتٍ من نغم وشوق وصور قامات طربية عالية رافقها عزفاً وتسجيلاً، ولعلّ أبرزها رسوخاً في الذاكرة صورة سمراء البادية سميرة توفيق التي لم تكن تقدّم حفلاً إلّا ويكون سِتراك ضابط إيقاعه الأوّل، تماماً كما كان يضبط بتلك الأنامل السحرية كلّ رعشة كانت تعتري سامعيه وتجعل القلوب ترقص في الصدور فرحاً وطرباً وإعجاباً. فماذا تقول الفنانة القديرة سميرة توفيق عن رفيق الدرب وما هو الإرث الذي تركه "الملك" بعد رحيله؟ لم يتربّع ستراك على عرش آلة الطبلة كعازف ومحدِّث في موسيقاها وإيقاعاتها إلّا بعدما استحال أسطورةً حقيقية، فتناقلت الأجيال صولاته وجولاته مع تلك الآلة العجيبة بين يديه.
مع ستراك تذهلك سرعة الأنامل الرشيقة التي تكاد تدوّخ العيون، فالنقرات تنهال كالرصاص لتسابق السمع والنظر معاً، وبعد وصلة عزف مجنون، نراه ينحني على الآلة كحبيب حنون يدغدغها لتطلق من بين يديه قهقهات خجولة وبعض القبُل... ولم يكن السحر في تلك المعاجلة الغريبة يقتصر على عزف ستراك على الآلة وحدها وإنما كان يمتدّ ليمسك بخصور الراقصات وكأنه يحرّكها معه على وقع كلّ نقرة منه على الطبلة.
مشوار مع العمالقة
مشواره الذي ابتدأ عام 1958 مع الراقصة الشهيرة ناديا جمال اقترن بأسماء أهم عمالقة الطرب الذين صنعوا مجد الفن العربي وإحدى أجمل حقباته، فتعاون عزفاً وتسجيلاً مع وديع الصافي وفيروز وصباح ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ووردة وسواهم... لكنّ مشواره مع سميرة توفيق هو من الأبقى في الذاكرة لا سيّما أنه اقترن بلحظات تلفزيونية لا تُنتسى كما أنه شكّل التقاءً بين العائلي الحميم والفنّي المبدِع في آن.
سِتراك لم يرافق سميرة توفيق في حفلاتها وحسب منذ عام 1959 حتى أواخر سنوات نشاطه، وإنما كان بمثابة أخ وفرد من أفراد العائلة بالنسبة إلى المطربة الكبيرة التي كانت الإشبينة في زفافه وعرّابة جميع أولاده.
سميرة توفيق: فقدتُ الأخ والصديق
وتقول سميرة توفيق في رحيل رفيق الدرب: "هو الأخ والصديق الذي لا يُعوَّض. مودة ستراك تختلف، فهو ليس ملك الإيقاع كما لقّبوه فحسب بل هو ملك في أخلاقه وحياته وتعاطيه مع الآخر. حياتنا كانت عائلية وزوجته هي حبيبة قلبي وأولاده تعمّدوا على يدي. سأفقتد ستراك النزيه الشريف الأمين المحب".
وتضيف: "أبكي العمر والوفاء بموت ستراك وأبكي النجاح الجميل وأستذكر كلّ المراحل وكلّ الصعوبات التي جمعتنا معاً، فلم تكن لي وقفةٌ على المسرح من دون ستراك. كان زينة مسارحي وأقولها مع محبتي لجميع أعضاء فرقتي ممَّن رحلوا رحمهم الله وممَّن بقوا حفظهم الله، لكنّ "سيتو" كما كنّا ندلّعه هو حبيبنا وحبيب الفرقة فلا أذكر أننا اختلفنا يوماً أو تشاجرنا، وهو لم يزعّلني طيلة عمره ولم يرفض لي طلباً".
وتؤكّد: "اللي خلّف ما مات» وإليان نجل ستراك سائر بخطى واثقة على درب أبيه بإذن الله. فستراك ربّى عائلة صالحة تملؤها المحبّة التي تغمر زوجته الفضلى وأولاده وأحفاده... هذه هي عائلة ستراك".
وتختم بالقول: "عمِل ستراك مع الكبار، ومسيرته الطويلة كانت معي شخصياً «فكيف لي دون ستراك... رحمه الله وذكراه في قلبي لن تموت وفي مسيرتي هو المحب الأوفى، وعزائي لعائلته التي هي عائلتي وللفن الأصيل في زمننا... ستراك رحلتَ بالجسد أما روحك وأعمالك فباقية... ستراك ملك الإيقاع رحمك الله يا غالي...".
سفير إيقاعات من لبنان إلى العالم
وستراك سركيسيان (مواليد عام 1937) الذي ترك بصمات لا تُمحى على آلة الطبلة وكان له الفضل الأكبر بأن أصبح وجود هذه الآلة رئيسياً وبارزاً في أهمّ الفرق وأعمال أبرز الموسيقيين العرب، كان قد بدأ مشواره في الـ 18 من عمره وتعاون مع الفنان كارم محمود ليغيّر نظرة عائلته التي كان تعارض فنّه في بداية مشواره. وكان ستراك يعتزّ بأنه فنان عصامي صنع نفسه بنفسه وصقل موهبته بإصراره وشغفه.
وقد التصق به لقب "ملك الطبلة" منذ عام 1980 عندما أطلقه عليه الصحافي الراحل سعيد فريحة. وعام 1992 مثّل ستراك الدول العربية في مسابقة Télé Europe عن افضل عازف لآلة موسيقية في النروج ونال الجائزة الاولى وقد منحه التلفزيون العربي الأميركي في لوس انجلوس في ولاية كاليفورنيا درع أفضل ضابط إيقاع في العالم العربي عام 1994.
وفي العام 2013 منحه رئيس الجمهورية الأرمنية الجنسية الأرمنية تقديراً لمسيرته وعطاءاته الموسيقية، التي وثّقها في 52 ألبوماً و59 عاماً من المشوار الفني المبهر الذي لامس العالمية، فقلّة يعرفون أنّ ستراك ساهم في موسيقى فيلم Original Sin (2001) من بطولة أنجيلينا جولي وأنطونيو بانديراس وذلك من خلال موسيقى Belly Dancing World، التي تضمّنها الفيلم.
ولا تقتصر إنجازات ملك الطبلة ستراك على الجوائز والتقديرات والدروع التكريمية وإنما تتركّز بشكل أساس على كونه سفيراً لإيقاعات الشرق إلى كلّ العالم، حيث تحتفظ مئاتُ الراقصات بألبوماته في مختلف البلدان ويكفي إلقاء نظرة على المنصات الرقمية لتبيان مدى انتشار معزوفاته.
إحسان المنذر: رحل المعلِّم
وهذا ما يؤكّده المايسترو إحسان المنذر: "فقدنا «المعلِّم"، فستراك لم يكن فقط عازف طبلة من الأكثر براعةً في العالم وإنما فقدنا ضابط الإيقاع المهمّ والوازن بوجوده في أية فرقة موسيقية، فالدو الذي كان يلعبه كضابط إيقاع كان محوَرياً بالنسبة إلى أيّ عمل موسيقي.
أنا عرفت ستراك الفنان والإنسان وهو قامة لا تعوّض فنّياً وإنسانياً فقد كان متفانياً في عمله إلى أقصى الحدود وكان خلوقاً ومحبّاً ولا شك أنه كان عبقرياً في عزفه وهو واحد من عمالقة الفن الذين ستستمرّ أعمالهم من بعدهم".