يبدو أن كثراً يشكّكون في صحة الرئيس ترامب العقلية. وقد ذهب النائب الديموقراطي عن كاليفورنيا، تيد ليو، هذا الشهر، إلى حد القول بأنه يفكّر في اقتراح قانون يفرض وجود طبيب نفسي في البيت الأبيض.
الأكثر إثارة للسجال هو عدد خبراء الصحة العقلية الذين ينضمون إلى الجوقة. في كانون الأول الماضي، تضمّن مقال نشرته صحيفة "هافنغتون بوست" رسالة بقلم ثلاثة أساتذة مرموقين في الطب النفسي تحدثوا عن "غطرسة [الرئيس ترامب] وحساسيته المفرطة تجاه الإساءة أو الانتقاد، وعجزه الواضح عن التمييز بين الخيال والواقع"، معتبرين أن في ذلك دليلاً على اضطرابه العقلي. لم يقدّم الخبراء تشخيصاً رسمياً لوضع الرئيس النفسي، لكنهم ناشدوه الخضوع إلى تقويم طبي ونفسي عصبي كامل على أيدي محقّقين حياديين. وقد ذهب أحد الأطباء النفسيين أبعد من ذلك في أواخر كانون الثاني الماضي. ففي مقال بعنوان "نوبة مزاجية" نشرته U.S. News and World Report، نُقِل عنه قوله بأن الرئيس ترامب يعاني من نرجسية خبيثة من صفاتها الأساسية الغطرسة والسادية والسلوك غير الاجتماعي.
لا شك لديّ في أن هؤلاء الخبراء يعتقدون أنهم يحمون البلاد من رئيسٍ يرون – شأنهم في ذلك شأن كثيرين منا – أن سلوكه خطير. وورد في رسالة إلى المحرر نُشِرت في هذه الصحيفة، ووقّعها 35 طبيباً وعالماً نفسياً وعاملاً اجتماعياً: "نخشى أن هناك أموراً كثيرة على المحك بحيث أنه لا يمكن التزام الصمت". تابعت الرسالة: "نحن نعتقد أن الاضطراب العاطفي الخطير الذي يؤشّر إليه خطاب السيد ترامب وتصرّفاته يجعله عاجزاً عن أداء المهمات الرئاسية بطريقة سليمة وآمنة".
غير أن المحاولة الساعية إلى تشخيص مشكلة طبية لدى الرئيس ترامب والإعلان أنه غير مؤهّل عقلياً لأداء مهمات الرئيس، مضلَّلة لأسباب عدّة.
أولاً، لدى جميع الخبراء معتقدات سياسية ربما تتسبّب بتشويه حكمهم على الحالة النفسية. لنتوقّف عند ما قاله زملائي العاملون في مجال الطب النفسي والذين يتألفون في معظمهم من ليبراليين، عن السناتور باري غولدووتر، المرشح الجمهوري للرئاسة عام 1964، مباشرةً قبل الانتخابات. أجرت مجلة "فاكت" التي لم يعد لها وجود الآن، استطلاعاً مع أعضاء "جمعية الطب النفسي الأميركية" عن تقويمهم لغولدووتر. وقد شنّ كثرٌ هجوماً عنيفاً عليه واصفين إياه بأنه "مصاب بالبارانويا"، و"باضطراب ذهني شديد"، و"بجنون العظمة". وقدّم بعضهم تشخيصاً، مشيرين إلى أنه يعاني من انفصام الشخصية واضطراب الشخصية النرجسية.
استخدموا معارفهم المهنية سلاحاً سياسياً ضد رجل لم يقوموا قط بمعاينته وفحصه، ومن المؤكّد أنه لم يكن ليوافق مطلقاً على أن يناقشوا صحته العقلية على الملأ.
رفع غولدووتر دعوى قضائية (ناجحة)، ونتيجةً لذلك، وضعت "جمعية الطب النفسي الأميركية" عام 1973 "قاعدة غولدووتر" التي تنص على أنه بإمكان الأطباء النفسيين مناقشة مسائل الصحة العقلية مع وسائل الإعلام، إلا أن قيامهم بتشخيص أمراض عقلية لدى أشخاص لم يعاينوهم ولم يحصلوا على موافقتهم، منافٍ لآداب المهنة.
خلافاً لما يعتقده كثر، لا تعني هذه القاعدة أنه يجب أن يلتزم المهنيون الصمت بشأن الشخصيات العامة. في الواقع، تنص الإرشادات التوجيهية تحديداً على أنه ينبغي على خبراء الصحة العقلية تشارُك معارفهم من أجل تثقيف الرأي العام.
إذاً من المنافي لآداب المهنة أن يقول طبيب نفسي إن الرئيس ترامب يعاني من اضطراب الشخصية النرجسية، بل يتعيّن عليه أن يتحدّث عن السمات الشائعة لدى الشخصية النرجسية، مثل الغطرسة وعدم تقبّل الانتقاد، وكيف يمكن أن تُفسِّر سلوكيات ترامب. بعبارة أخرى، يستطيع الأطباء النفسيون أن يتحدثوا عن علم النفس وعوارض النرجسية في شكل عام، وللرأي العام حرية أن يقرّر إذا كانت المعلومات تنطبق على الفرد.
قد يبدو ذلك وكأنه مماحكة، لكنه ليس كذلك. يقتضي التشخيص معاينة دقيقة للمريض، والاطلاع على تاريخه بالتفصيل، فضلاً عن مختلف البيانات السريرية ذات الصلة – والتي لا يمكن جمع أي منها عن بعد. فالنرجسية مثلاً ليست التفسير الوحيد للسلوك الذي يتّسم بالتهوّر والإهمال والغطرسة. من الممكن أنّ الشخص يعاني من مشكلة سريرية أخرى مثل اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة؛ أو إدمان المخدّرات أو الكحول أو المنشّطات؛ أو شكل من أشكال الاضطراب الثنائي القطب، وسواها من المشكلات.
المقصود من ذلك كله أنه عندما يقول المهنيون العاملون في مجال الصحة العقلية عن شخصيات عامة إنها مصابة بأمراض عقلية، ليس ذلك منافياً لآداب المهنة وحسب – بل إنه مشبوه فكرياً. فنحن لا نملك البيانات السريرية الضرورية كي نكون على يقين مما نقوله.
فضلاً عن ذلك، حتى لو اعتبرتَ أن الرئيس يعاني من اضطراب عقلي، فهذا الأمر في ذاته قد لا يكشف الكثير عن أهليّته لأداء مهماته الرئاسية. لينكولن مثلاً كان مصاباً باكتئاب حاد. وعلى الأرجح أن ثيودور روزفلت كان يعاني من الاضطراب الثنائي القطب. وكان يوليسيس س. غرانت مدمناً على الكحول. بحسب دراسة تستند إلى بيانات بيوغرافية، كان 18 من أصل أول 37 رئيساً حكموا الولايات المتحدة يستوفون المعايير التي تشير إلى أنهم عانوا من اضطراب نفسي خلال حياتهم: عانى 24 في المئة منهم من الاكتئاب، و8 في المئة من الحصر النفسي، و8 في المئة من الاضطراب الثنائي القطب، و8 في المئة من إدمان الكحول أو المخدرات. وأظهر عشرة منهم مؤشرات الإصابة بمرض عقلي خلال وجودهم في المنصب.
يمكن أن تكون مريضاً نفسياً إنما تتمتع في الوقت نفسه بالكفاية التامة، تماماً كما يمكن أن تكون سليماً من الناحية العقلية إنما غير مؤهّل على الإطلاق (بالطبع، بعض الأمراض العقلية، مثل الذهان المزهر أو الخرف، تجعل الرئيس غير مؤهل لأداء مهماته).
ثمة سبب أخير يحتّم علينا أن نتجنّب وَسْم قادتنا بأنهم مصابون بأمراض نفسية: فهذا يجعلهم يتفلّتون من الضوابط الأخلاقية. ليست كل السلوكيات السيئة انعكاساً لإصابة بمرض نفسي ما؛ الحقيقة هي أن الدناءة واللاكفاية البشريتَين أكثر شيوعاً إلى حد كبير من المرض العقلي. لا يجدر بنا أن نقدّم مبررات طبية لأصحاب السلوك السيئ.
إذاً لا تحتاج البلاد إلى طبيب نفسي ليساعدها كي تقرر إذا كان الرئيس مؤهَّلاً لأداء مهماته، على المستوى العقلي أو غيره. يجب الحكم على الرؤساء انطلاقاً من أفعالهم وتصريحاتهم، وأيضاً تغريداتهم كما أعتقد. ولا حاجة إلى خبراء للقيام بذلك – الفطرة السليمة كافية.
المصدر: ترجمة نسرين ناضر (النهار)