من باب المطالبة بعودة التوازن الى إدارات الدولة، لا بدّ من الإضاءة على نقطة أساسية وجوهرية تتعلق بمصير الوطن ككل، إذ لا يكفي المسيحيين أن يُصدروا بيانات أو ينظّموا حلقات اعتراض تتناول تهميشهم في الوظائف الرسميّة، في حين يُحجمون عن الدخول الى وظائف أمنيّة معيّنة.
وفي هذا الإطار، من الضروري التوقّف عند الدعوات المتكررة لقيادة الجيش والتي فتحت باب التطوّع أمام المسيحيين لإعادة التوازن المفقود منذ فترة، نتيجة أسباب عدة، أهمّها، الخسائر البشرية التي مُنيَ بها المسيحيون أيام الحرب الأهلية، من ثمّ موجات الهجرة المتلاحقة التي أفقدتهم القدرات الشبابية إضافة الى إتجاه المسيحيين نحو العلم والتخصص والتجارة والمهن الحرة، في حين شكّل التناقص الديموغرافي الحاد نتيجة قلة الولادات وإقتصار الإنجاب في العائلة المسيحيّة على ولد أو ولدين، عامل حاسم في عدم التشجّع للإنخراط في المؤسسات الأمنية.
وأمام هذا الواقع، لا بد من التوقف عملياً عند نقاط تقنيّة مهمة ساهمت في كسر الميزان وخلق واقع من اللاتوازن، ولعلّ أبرزها ميل الشباب المسيحي الى التقدّم كتلامذة ضباط، وابتعادهم عن التطوّع كعناصر، مع أنّ باب الترقية مفتوح.
والأمر الثاني والمهم، هو إتجاه الشباب المسيحي الراغب في التطوّع كعنصر، الى أسلاك قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، على اعتبار أنّ الخدمة في هذه الأسلاك أسهل، فيما ينتشر الجيش في كلّ أنحاء لبنان وعلى الجبهات ويواجه تحديات أكبر خصوصاً في المعارك مثلما حصل أخيراً في صيدا وطرابلس وعرسال ومناطق أخرى.
من هذا المنطلق، فإنّ الحجج السياسية، وحتى الطائفية، التي كانت تُعطى سابقاً لعدم إنخراط المسيحيين في الجيش تسقط على إعتبار أنّ قيادة الجيش تدخل في الوجدان الماروني- المسيحي لأنها مركز يوازي بأهميته رئاسة الجمهورية، فيما يتجه المسيحيون الى بقية الأسلاك.
في حين أنّ الواقع يدلّ على أنّ قيادة الجيش تفعل المستحيل لجذب المسيحيين. فأيّ مسيحي يريد التطوّع كعنصر يدخل المؤسسة العسكرية فوراً من دون انتظار طلب القيادة.
وتسقط الحجّة السياسية أيضاً بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ففي السابق كان المسيحيون يشكون «بأنّ الدولة ليست لنا»، أما الآن فقد وصل رئيس أكبر كتلة مسيحية الى المنصب الأوّل في الدولة، وبالتالي فإنّ حجّة المسيحيين لم تعد قائمة.
يُعتبر هذا الموضوع من الملفات الحساسة التي تقارَب بروح وطنية لا طائفية، ويتحمّل الجميع المسؤولية، فعلى سبيل المثال، إذا طلبت قيادة الجيش تطويع 5000 عسكري خصوصاً أنّ فكرة الإستثمار في الأمن مطروحة جدّياً والجيش يحتاج الى عناصر، فكم شاب ستشجّع الأحزاب المسيحية مجتمعة ومعها البطريركيات والرهبانيات على الإنخراط في السلك؟
وما يدعو للاستغراب أيضاً أنّ قسماً كبيراً من الشباب المسيحي يفتّش عن فرص عمل ولا يفتح باب الهجرة أمامه، وفي الوقت عينه يفضّل البقاء في المنزل على التطوّع، مع أنّ روح الوطنية مرتفعة بشكل كبير في نفوس هؤلاء، إذ عندما وقعت أحداث القاع هبَّ جميع الشباب المسيحيين مبديين إستعدادهم للمقاومة وحمل السلاح دفاعاً عن بلدهم، في حين لم يتقدّم أحد للإنخراط في الجيش علماً أنّ الأحداث أثبتت أنه القوة الوحيدة التي تحمي لبنان من دون منافس.
لا يستطيع أحد أن يُنكر وجود مشكلة وطنية في هذا الملف، ولا يجب تحميل كلّ شيء الى المسيحيين الذين تحمّلوا ما فيه الكفاية للدفاع عن وطنهم، لكنّ التحوّلات الأخيرة غيّرت الخريطة الداخلية ما انعكس على المؤسسات الأمنية، من هنا يجب معالجة هذا الموضوع بهدوء لأنّ المسيحي كان دائماً يلبّي النداء عندما يدهم الخطر لبنان، لذلك يجب أن يكونوا جاهزين متى طلبت القيادة منهم التطوّع.