فجأة ومن دون سابق إنذار عادت نغمة التصعيد المتبادل على ضفتي الحدود بين لبنان وإسرائيل. التصعيد اللفظي والاستعراضي يقابله استمرار الهدوء والاستقرار في أكثر منطقتين آمنتين في الشرق الأوسط منذ نحو أحد عشر عاما، نقصد جنوب لبنان ومنطقة الجليل الإسرائيلية، فهل المنطقة أمام مشهد تفجيري جديد طرفاه إيران عبر ذراعها حزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية على الأرض اللبنانية وداخل الحدود الإسرائيلية؟
نقطة البداية في هذا المشهد التصعيدي بدأت منذ بداية الشهر الجاري، منذ أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب مواقف عدّة تجاه إيران، أوحت بوجود سياسة أميركية جديدة عنوانها الحدّ من النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، قال الرئيس الأميركي الجديد إنّه يريد الحدّ من النفوذ الإيراني في العراق، ووجّه أكثر من رسالة واضحة حيال التجارب الصاروخية الباليستية، وأعاد إيران إلى مربع العقوبات الأميركية الأول، ووجه رسالة مباشرة من على شواطئ اليمن بعد العملية الانتحارية التي استهدفت فرقاطة سعودية. كل هذه التطورات واستعراض أوراق القوة الأميركية، كان لا بد للقيادة الإيرانية أن ترد في المقابل باستعراض أوراق قوتها، وحزب الله الذي يمسك بالحدود اللبنانية مع إسرائيل، هو الأكثر قدرة على تلبية النداء الإيراني للرد على التهديدات الأميركية، ومن دون أن تتحمل إيران أيّ مسؤولية مباشرة.
على أنّ حزب الله الذي يدرك حساسية اللعبة الدولية، منذ أن غضت واشنطن النظر عن انخراطه في الحرب السورية دعما لنظام بشار الأسد، حرص على أن تكون رسائله الصوتية ضد إسرائيل ولا تقترب من أيّ موقف يمكن أن يشتم منه أيّ تهديد للمصالح الأميركية المباشرة في لبنان والمنطقة، لذا عندما نشرت وكالة رويترز الإخبارية قبل أيام نقلا عن مصدر في حزب الله أنّ الأخير يوجه تحذيرات لترامب، سارع حزب الله إلى نفي الخبر معتبرا أنّ لا أساس له من الصحة ببيان صدر عن العلاقات الإعلامية في حزب الله.
التهديدات التي أطلقها الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، كانت مدروسة أيضا تجاه إسرائيل، فهي مسبوقة دائماً بـ“إذا قامت إسرائيل بعدوان على لبنان فإنّ حزب الله سيرد”، ويكمل أنّ لدى حزب الله مفاجآت للجيش الإسرائيلي، مؤكدا أنّ معلومات إسرائيل عن إمكانيات حزب الله التسليحية والقتالية ضعيفة. لكن نصرالله وهو يستعرض في خطابه ضد إسرإئيل، كان يوجه سهامه إلى المنظومة العربية، وتحديدا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، في مواقف كشفت عن انقلاب على ما قيل عن تفاهم لبناني عبرت عنه محطة انتخاب العماد ميشال عون رئيسا ومحطة تشكيل الحكومة، وتأكيد الأطراف اللبنانية، على اختلافها، على ضرورة إعادة تنشيط العلاقة مع الدول العربية ولا سيما الدولتين المذكورتين. من هنا جاء تصعيد حزب الله ضد إسرائيل وضد الدول العربية، مع فارق استمرار الهدوء وعدم القيام بأي خطوة عسكرية ضد إسرائيل، في مقابل ضخ مستمر للمقاتلين سواء باتجاه سوريا أو غيرها من الدول العربية كما هو الحال في اليمن والعراق.
حزب الله الذي يدرك حساسية اللعبة الدولية، حرص على أن تكون رسائله الصوتية ضد إسرائيل ولا تقترب من أي موقف يمكن أن يشتم منه أي تهديد للمصالح الأميركية المباشرة في لبنان والمنطقة
الكلفة القتالية ضد إسرائيل هي وجودية لحزب الله، فإسرائيل ردت على مفاجآت نصرالله التي لوّح بها في خطابه، بموقف من أفيجدور ليبرمان وزير الأمن الإسرائيلي قال فيه، إنّ كلّ مقومات الدولة اللبنانية ستكون هدفا لإسرائيل ولم يذكر حزب الله، وهي إشارة إلى أنّ هذه الحرب ستزيد من أعداء حزب الله أكثر ممّا ستجد تعاطفا معه. فالكل يعلم أنّ الدولة اللبنانية في أسوأ أوضاعها المالية والاقتصادية، فيما حزب الله بات يدرك أنّ التعاطف اللبناني أو العربي لن يكون متوفرا كما حصل في حرب العام 2006، لذا فإنّ بعض المراقبين يقرأون في مواقف الحزب التصعيدية الأخيرة محاولة للجم أيّ حرب إسرائيلية محتملة ضده بتشجيع من ترامب، فيما يضيف بعض المراقبين أنّ تصعيد حزب الله هو محاولة إيرانية للتذكير بأنّ لإيران دورا محوريا في حماية الاستقرار على الحدود الشمالية لإسرائيل سواء مع لبنان أو مع سوريا، وأنّ إيران تنبه إلى أنّها في حال تعرضت مصالحها ونفوذها في المنطقة العربية لأي تهديد أميركي فهي يمكن أن تذهب إلى خطوة انتحارية على الحدود الإسرائيلية.
في هذا السياق لا يمكن المرور على موقف السلطة اللبنانية من دون الإشارة إلى موقف لبنان الرسمي. حيث برز موقفان واحد عبر عنه رئيس الجمهورية المنهمك في ترتيب وضعية انتخابية برلمانية تتيح له أن يحصد حزبه التمثيل المسيحي الكاسح، وهي وضعية لا يمكن أن تتحقق له من دون رعاية حزب الله سياسيا ولوجستيا، فكان واضحا في القول إنّه إلى جانب سلاح المقاومة وضرورة بقائه في المعادلة اللبنانية لأن الجيش عاجز عن مواجهة أيّ عدوان اسرائيلي.
الموقف الآخر كان من الحكومة اللبنانية التي انتقدت مواقف نصرالله من الدول العربية واعتبرها الرئيس سعد الحريري تخريبية لمصالح لبنان وعلاقاته الأخوية مع دول الجوار، فيما جدد التأكيد سواء على طاولة الحكومة أو في خطابه من على منبر 14 فبراير، أي في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أنّ قضية السلاح غير الشرعي لم تنته كقضية محورية يسعى إلى إنهائها في سبيل دعم خيار السلاح الشرعي من قبل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية.
لم تذهب المواجهة الداخلية نحو مسارات الانقسام السياسي الحاد، فحزب الله اكتفى بتوجيه رسائل باتجاه الخارج، وأظهر اهتماما بعدم الانجرار إلى مواجهات داخلية، واختفى خلف موقف رئيس الجمهورية الذي بدأ بتلقي الرسائل الدولية والأميركية المعترضة على مواقفه التي تتناقض مع مقتضيات القرار الدولي رقم 1701 والتي لا تقرّ بوجود سلاح غير سلاح الشرعية اللبنانية والقوة الدولية المنتشرة منذ العام 2006 في منطقة الجنوب وإلى جانب الحدود مع إسرائيل.
يبقى أنّ المخاوف وتداعيات التصعيد الكلامي لم تكن لصالح الدولة اللبنانية، التي يفترض أنّها مع العهد الجديد، تحاول أن تستعيد بعض النشاط الاقتصادي من خلال تحفيز السياحة والاستثمار وجذب المساعدات العربية والدولية، لكن يبدو أنّ الحسابات الإيرانية تتقدم على كل الحسابات اللبنانية وعلى نظام مصالح اللبنانيين عموما، فإيران لن تقبل بأن يتم تهديد نفوذها دوليا في المنطقة العربية، وصراخ حزب الله لا يمكن إلاّ أن يكون نتيجة تحسسه لخطر تنطوي عليه مواقف الإدارة الأميركية تجاه إيران، وهو إن كان يدرك أهمية دوره اليوم كحام للحدود اللبنانية مع إسرائيل ضد أيّ محاولة مقاومة فلسطينية أو عربية أو إسلامية ضد احتلال فلسطين، فيستخدم هذه الورقة في مواجهة التطور الأميركي تجاه الحرب في اليمن، فالحياد العملي الذي اعتمدته إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه الانقلاب الحوثي في اليمن، تبدو إدارة ترامب حاسمة أكثر من الإدارة السابقة في إنهاء الأزمة اليمنية انطلاقا من مواجهة النفوذ الإيراني في هذا البلد، ولعلّ تعزيز حضور البوارج الأميركية في مياه الخليج، هو الرسالة الأكثر وضوحا، مع ما يقابلها من تراجع استعراضات الحرس الثوري والبحرية الإيرانية التي لمست أنّ الأميركيين جادّون بتوجيه ضربة لإيران هذه المرة.
الأصوات الإيرانية المرتفعة ضد إسرائيل هذه الأيام، لم تكن هي ذاتها قبل عام، ما يؤكد أنّ التلويح بورقة حزب الله، وعقد مؤتمر دعم فلسطين هذه الأيام في طهران، والتهديد بضرب مفاعل ديمونا الإسرائيلي، ليست إلاّ محاولات خطابية مرفقة بكيل الاتهامات للنظام العربي، ولكن من دون أي استعداد لتوجيه أي رصاصة باتجاه العدو الإسرائيلي.
إيران التي غامرت بالعرب في سبيل كسب ودّ الغرب، تحاول اليوم ألا تخسر ودّ الغرب أيضا، وما أصوات نصرالله في لبنان والرئيس الإيراني حسن روحاني في الكويت وعُمان، إلاّ محاولة للحدّ من خسائرها الدولية بعدما صارت عدوا لمعظم الدول العربية، فيما الدول الكبرى غير راغبة في إعطائها المكافأة التي طمحت إليها بعد إنجازها التاريخي في المشاركة الفعالة بتدمير الدول والمجتمعات العربية فداء لغير العرب ولغير المسلمين.