تعيش الولايات المتحدة مرحلة داخليّة صعبة بعد بدء رئيسها ترامب ممارسة سلطاته الدستوريّة. وسبب ذلك عدم امتلاكه استراتيجيا لمعالجة مشكلات داخلها وسياسة تطبيقيّة لها، واكتفاؤه بعناوين تستهوي بعض الشعب وتخيف البعض الآخر. وقد ظهر ذلك جليّاً من التخبّط الذي يعيشه من عيّنهم في إدارته. فهو ألقى على كاهلهم مهمّة وضع الاستراتيجيا والسياسة من دون أن يزوّدهم تفاصيل "أفكاره ومشروعاته". ومن جهة أخرى اتخذ "قرارات تنفيذيّة" فاجأت المكلّفين تنفيذها، كان أبرزها "حظر السفر" (Travel Ban)، فضلاً عن قرارات أخرى. ومن أسباب المرحلة الصعبة التي يعيشها الأميركيّون حالياً شعور قيادة أساسيّة وفاعلة في حزبيْهم الرئيسيْين الجمهوري والديموقراطي بوجود خطر يتهدّد فعليّاً الديموقراطيّة الأميركيّة والحريّات المتنوّعة. فطريقة دفاع ترامب عن حقوق العمال، وسعيه إلى تأمين فرص عمل لهم بعدما قلّت جرّاء "هجرة" الصناعات الأميركيّة المتنوّعة، اعتمدت تهديد أصحاب الأخيرة بإجراءات عقابيّة متنوّعة لإجبارهم على العودة، والتخلّي عن الفوائد المتنوّعة للعولمة التي "اخترعتها" بلاده وعمّمتها على دول العالم كلّها. كما اعتمدت اغراءهم باجراءات أخرى. وكل ذلك كان شفهيّاً وشخصيّاً ولا علاقة جدية له بالمؤسّسات. وتعرّضه للاعلام الأميركي المهم، وغالبيّتـه غير مؤيّدة له، جعلت العاملين فيه وليس أصحابه فقط خائفين عليه وعلى حريّته، وعلى قدرتهم على ممارسة عملهم القائم على تزويد الشعب الأميركي معلومات وتحليلات ومواقف. ودفعتهم أولاً إلى طرح هذا الموضوع في وسائلهم لتكوين رأي عام سياسي وشعبي ضاغط على ترامب كي يتراجع. وقد أثار ذلك خوف السياسيّين الجمهوريّين والديموقراطيّين الذين يعبّرون عن خوفهم بل ذعرهم علانية. وكان آخرهم يوم الأحد السيناتور الجمهوري جون ماكين الذي شبّه ممارسات ترامب الإعلاميّة وغيرها بممارسة الحاكم الـ(Authoritarian) أي الفاشي بحسب القاموس أو المتسلّط. طبعاً استدرك قائلاً إنه لا يقصد إعطاء ترامب هذه الصفة، لكن استدراكه لا يغيّر في الأمر شيئاً. فالديموقراطيّون الليبراليّون الأميركيّون وقسم كبير من حزبَيْهم الكبيرين خائفون. علماً أنهم كانوا يجب أن يخافوا وأن يحتاطوا إذا استطاعوا بعد سماعهم خطابه في أعقاب قسمه اليمين على احترام الدستور وحماية أميركا. فيومها لم "يستحِ" من رؤساء سابقين ديموقراطيّين وجمهوريّين ومن أعضاء مجلس الكونغرس من الحزبين الموجودين على جانبيه في مكان الاحتفال، إذ قال أكثر من مرّة إنه عند الاختلاف حول أمر أو قضية أو موقف لن يرجع إلى المؤسّسات بل إلى "أنتم الشعب" (You The people) واستعمل يده بل أصبعه للإشارة إليهم.
إقرأ أيضا : عون رئيس الحكومة ثم الزعيم المسيحي فالرئيس!
هذا على صعيد الداخل. أما على صعيد الخارج فإن دُولَه بل العالم كلّه يعيش مرحلة صعبة جرّاء غياب الاستراتيجيا الدولية لترامب والسياسة التطبيقيّة لها. فهو مع التخلّي عن حلف شمال الأطلسي والانعزال عن العالم ومع بقاء نظام الأسد في سوريا ومع التعاون مع روسيا ومع مواجهة الصين. وهو بعد مرور أسابيع قليلة على رئاسته تراجع عن "مواقف" استراتيجيّة عدّة أبرزها ملف الصين وملف أوروبا واتحادها وحلف شمال الأطلسي.
طبعاً لن يقبل الأميركيّون التخبّط الذي تسبّب به لهم ترامب، وسيرفضون قطعاً الديكتاتوريّة وحكم الفرد. كما أنهم سيشكِّكون بقدراته، غير الشعبويّة طبعاً، عندما يرون عجزه عن إقامة إدارة مكتملة قادرة على العمل معاً وعن منع تسلّل الفراغ إلى قمم إدارات أميركية مهمّة. ولن يقبل حزباهم الجمهوري والديموقراطي ذلك، وقد بدأ الحديث وإن خجولاً عند ضرورة إقالة الكونغرس له (Impeachment). وهذه عملية غير سهلة على الاطلاق إذ تتطلّب وقتاً طويلاً، ومزيداً من القرارات الرئاسيّة غير المدروسة، ومن التصرّفات التي تذكّر بالاستبداديّين في العالم وفي مقدّمهم الزعيم النازي لألمانيا، لكن أميركا ستسير نحوها إلّا إذا قرّر ترامب الاعتماد على فريق عمل متجانس من الحكماء في حزبه وخارجه، ونجح في "الخروج من جلده" كما يقال أي من فردانيّته وشعبويّته وشخصانيّته، وحاول اكتساب المعرفة السياسية والخبرة في التعامل مع المؤسسات ودول العالم. فالخبرة في "البزنس" بل في العقارات وصناعة الترفيه لا تكفيان لحكم دولة لا تزال الأقوى في العالم رغم محاولة روسيا بوتين إنزالها عن هذا العرش.
هذه ملاحظات من خارج. ماذا يقول عن أميركا ترامب اليوم متابع صديق في واشنطن يمتلك من الخبرة والمعرفة الكثير؟